الرئيسية| التقارير |تفاصيل الخبر

مدرسة التطبيع العربية

مدرسة التطبيع العربية
مدرسة التطبيع العربية

سلام الكواكبي

تتعرض سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية فيما يتعلق ببعض القضايا العربية وخصوصاً منها الصراع مع إسرائيل، إلى مقاومة وصد من بعض الدول الأعضاء عند محاولة التنديد، وحتى الخجول جدا، بسياسات إسرائيل الاستيطانية والاستعمارية.


ويكاد المراقب أن يظن بأن الانحياز لإسرائيل ضمن الاتحاد محصورٌ في بعض الدول التي ارتبطت تاريخياً بظروف نشوء هذا الكيان، ولكنه سرعان ما يتوقف عند مواقف وتصريحات منحازة ومن دون أي تردد للسياسات الإسرائيلية في الضم والقضم والاستيطان والاستعمار، تصدر عن دول من أوروبا الوسطى أو أوروبا الشرقية، والتي انضمت إلى الاتحاد منذ سنوات قليلة نسبياً. ولاستيضاح السبب الرئيسي لهذا الموقف المنحاز، يجدر التوقف عند الفترة السابقة لتحرر هذه الدول من سطوة الاتحاد السوفييتي وانهيار جدران برلين في نهاية ثمانينات القرن الماضي.



دول المعسكر الشرقي التي كانت سياساتها الخارجية تُدار من قبل الكرملين السوفييتي، كانت تُنتج خطاباً "تحررياً" و "نضالياً" للتعبير عن وقوفها "إلى جانب القضايا العادلة" و"تحرر الشعوب" و"دعم دول العالم الثالث". إلخ. وقد كان هذا الخطاب يحاول أن يغطي على عجز السياسات العامة في هذه البلاد كما على بعض المواقف المعادية للتحرر الفعلي لسكانها. وعلى رأس هذه القضايا "العادلة" كانت قضية فلسطين. وأطنبت حكومات تلك الدول حينها في التعبير عن عمق التزامها بأهداف حركة التحرر الفلسطينية وقدمت لبعض قادتها ملجأ، كما كانت مسرحاً لنشاطات بعض هؤلاء القادة "الثوريين" في ملف الفساد عموماً.



ارتبطت إذاً هذه القضايا، بمعزلٍ عن مشروعية الدفاع عنها أو الالتزام بها، بالحرمان من الحرية وبمختلف أنواع الفساد على حساب اقتصاديات ضعيفة عموماً. وأدى هذا إلى زيادة الاحتقان لدى الرأي العام المحلي، والذي ربط ظلماً القضايا العادلة بخطابات سياسية مشوهة. وقد أدى زوال المعسكر الشرقي وتحرر هذه البلدان، إلى التخلّي ظلماً، عن الوقوف إلى جانب قضايا العالم الثالث عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً. وقد عبّر ممثلو هذه الدول عن ذلك، في المؤسسات الأوروبية كما الدولية، بالوقوف دائماً إلى جانب السياسات الإسرائيلية.



من جهتها، التزمت الأنظمة الاستبدادية العربية في خطاباتها الرسمية بالقضية الفلسطينية بطريقة أشد استغلالاً مما اعتمدته قيادات دول المعسكر الاشتراكي السابق. وصار الخطاب السياسي كما الثقافي وحتى الاقتصادي، يضع المسألة الفلسطينية في صلب قوامه مطنباً في مساندتها والدفاع عنها وعن حقوق الشعب الفلسطيني المنتهكة والمغتصبة من قبل المحتل الإسرائيلي. وهذا الكلام الحق الذي يُراد به باطل، صار "يُستهلك" في الشاردة وفي الواردة. فأمام فقدان حرية التعبير لدى عموم "رعايا" هذه الأنظمة، والذين لم تعاملهم البتة كمواطنين، صارت ورقة التين التي تستر عورة الاستبداد هي القضية الفلسطينية. وصار الحديث عن المواجهة والصمود والتصدي، متلازماً مع زيادة جرعات القمع والرقابة والعسف بحق الناس. وقد شملت هذه السياسات الزجرية والمليئة بالحرص على ديمومة الاستبداد وبقاء رأس الحكم الطاغية على عرشه، قمع واعتقال وتصفية لاجئين فلسطينيين اضطرتهم السياسات الاستعمارية والاستيطانية الإسرائيلية إلى مغادرة أرضهم الأم فلسطين. وقد "برعت" أنظمة استبدادية بعينها في هذا الحقل، فشملت السلطات السورية فلسطيني سوريا برعايتها الأمنية والقمعية، إلى درجة أنها أطلقت على أحد أشرس فروعها الأمنية اسم "فرع فلسطين". كما سعى عراق صدام حسين كما ليبيا معمر القذافي، إلى انتهاك حقوق الفلسطينيين المقيمين على أرضها بدرجات مماثلة لما كانت تعانيه شعوب هذه البلاد، بحيث صار القول بالتآخي في السراء والضراء محققاً فعلياً.



ومن جهة أخرى، وإضافة إلى الاستغلال الإعلامي والسياسي للقضية الفلسطينية، وإضافة إلى القمع العام الذي شمل اللاجئين الفلسطينيين في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية، سعت هذه الأنظمة بحرفية عالية إلى محاولة بذر الشقاق ضمن حركة التحرر الفلسطينية عبر مختلف الوسائل، المالي منها والأمني. وقد نجحت بعض هذه الأنظمة، كعراق صدام وليبيا القذافي، في خلق ودعم بعض المجموعات المسلحة والتي عاثت بالقضية إرهاباً وفساداً وإساءة. مجموعات أسدت أولاً خدماتها الأمنية للأنظمة العربية التي استخدمتها بعيداً عن أية أهداف تعني الحق الفلسطيني، كما أنها قدمت للعدو الإسرائيلي خدمة من ذهب بحيث أنها منحته الحجج التي يُحسن استغلالها في خطابه الإعلامي للرأي العام العالمي مُقدّماً نفسه كضحية لإرهاب أعمى.



كانت القضية الفلسطينية "تُستهلك" بسوء إرادة جُرمي مصحوب بسوء إدارة بنيوي. ويكاد المراقب أن يعتقد، وربما هو على حق، بأن أحد أهداف هذا الاستغلال والاستهلاك من قبل الأنظمة العربية كان دفع الناس للتخلي عن الإيمان، غير المفروض من سلطة مستبدة، بحقوق الشعب الفلسطيني وبعدالة قضيته التي تشكّل في الوعي الجمعي القضية المركزية الأساس. وربما سعت هذه الأنظمة لتهيئة الرأي العام لتطبيع ستهرول له بعد أن تتغير المعطيات وبعد أن تتأكد بأن الضامن الأساس لديمومتها هو استمرار إسرائيل في ضم الأراضي وتشريد الفلسطينيين ونكران حقوقهم، وبالمقابل، عملها الدؤوب لاستقرار سلطاتهم وحماية أمنهم الداخلي. لكن ردود فعل الشارع العربي المقموع والمستبد به والمفقر، اثبتت بأنه لا يتخلى عن قضية عادلة كما ظن الطغاة الداخليين والخارجيين، وبأنه يعي الربط بين حريته وحرية الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وبدا واضحاً سعي المستبد لأن تسأم الرعية من هذه القضية العادلة لتتحوّل عنها وتقبل بتوجهه نحو إسرائيل دون أي مردود للقضية الفلسطينية. وترجم الساعون لتطبيع يعتمد على مبدأ السلام مقابل السلام، وسلاماً على الحقوق المشروعة، قناعاتهم بتأييد الثورات المضادة في أكثر من دولة عربية متحالفين في ذلك مع إرادة إسرائيلية ترى بأن ديمومة القهر في فلسطين المحتلة لا تتناسب أبداً مع وجود شعوب عربية حرة تعرف ما هو الحق وكيف الطلب وكيف النوال.


25 أغسطس 2020

مقاطعة نشطة

الأكثر قراءة

أخبار ذات صلة