لميس أندوني
4 أغسطس 2019
لم يكن الأردن يفتقر لإضافات تزيد المشهد فيه غموضاً وتوتراً، ولكن الكشف عن فيلم من المنويّ تصويره في مدينة البتراء التاريخية يروّج أن الأردن، لا فقط فلسطين، كانت مهداً للديانة اليهودية لتفجر شكوك الأردنيين ومخاوفهم من أن ما تسمى صفقة القرن، قد تمهد لاستيطان صهيوني في جنوب الأردن.
سيناريو الفيلم وعنوانه "جابر"، عن طفل أردني يجد حجراً لامعاً عليه نقش غير مفهوم، فيحاول بيعه لأستاذ آثار بريطاني، يكتشف أن النقش كلمة بالعبرية تعني الصخرة، وهو يعتقد أن الحجر قد يؤكد نظريةً لعالمة بريطانية، تقول إن منطقة البتراء هي مهد المسيحية واليهودية. ويقود الحوار إلى تأويل لنصوص دينية بأن "الأردن ليس فقط إسرائيل (لا يستعمل كلمة فلسطين) هي أراض مقدسّة"، مع الإشارة إلى وجود معبد يهودي في المدينة الأثرية. والأهم أن النظرية مبنيةٌ على ادعاء أن المسيح قبل مماته، أراد العودة إلى العهد القديم الذي تستعمله الحركة الصهيونية والمسيحية الصهيونية مرجعية لتأكيد حق اليهود التاريخي في فلسطين، ولشرعنة المشروع الصهيوني بأفكاره وممارساته ومجازره ضد الشعب الفلسطيني.
للموضوعية، ينتهي الفيلم بتسليم الصبي الحجر لدائرة الآثار الأردنية، ومنع الأردن وصول الحجر إلى إسرائيل، ما يبدو انتصاراً للمخابرات الأردنية، وما قد يفسّر الموافقة الأمنية على تصوير الفيلم الذي يمرّر نظريته الخطيرة، وإن كان لا يثبتها ولا ينفيها، إذ يقول على لسان أحد أبطاله، يتحدث عن الحقيقة التي ربما كانت ستغير مجرى الفهم للتاريخ والتاريخ نفسه، إذ يتركنا الفيلم مع النظرية، وهذا في حد ذاته مهم، ذلك أن معركتنا مع الصهيونية في جوهرها معركة صدقية الرواية.
دافع مخرج الفيلم محيي الدين قندور، وهو أيضاً كاتب السيناريو، عن النص بقوله إن وجود مجتمع يهودي في الأردن نحو قرن قبل الميلاد لا يعني أن لإسرائيل الحق في الأردن، ولا في أي جزء من أراضي الأردن. وهذا حقوقياً وقانونياً صحيح، ولكن تقديم هذا الطرح باعتباره جزءاً من نظرية متكاملة تعتمد على تفسيرات وتأويلات من عنده لنصوص مسيحية وآية من القرآن الكريم مثير للشك، فكيف تجاهل الكاتب، وهو أردني (أميركي الجنسية)، يعرف المنطقة والسياق التاريخي والسياسي فيها، حيث وجود حركة توسّعية صهيونية تبرّر أحقية اليهود في فلسطين التاريخية بحقيقة أن يهوداً كانوا في فلسطين قبل الميلاد.
من الصعب التصديق أنه من قبيل المصادفة كتابة نظرية تعتمد على دراسة نصوص دينية، ومطابقتها فترات تاريخية تتناسق، وأحياناً تتماهى، مع طروحات صهيونية، وبعضها مع معتقدات التيار المسيحي الصهيوني في أميركا، لحث أنصارهم على دعم إسرائيل من باب الإيمان بالله والمسيح والواجب الديني. إذ كان هناك مصادفة ثانية، أن المخرج وظف باحثين في التاريخ من اليمين الصهيوني في أميركا، من دون أن يعرف اتجاهاتهم، للخروج بطرحٍ يروّج طوال الفيلم طروحات اليمين الصهيوني، فلا يمكن بناء نظرية يحاول الكاتب تدعيمها بنصوص دينية، من دون أن تكون متعمدة ومقصودة، لزرع فكرة ما في الفضاء العام عن تاريخ المنطقة، في فترةٍ تحاول فيها إسرائيل التمدّد الاقتصادي والتجاري والثقافي في المنطقة، أي إنها نظرية قد لا تكون مقدمةً لمطالبة إسرائيل بأراض أردنية، بل بالمطالبة بقوانين تجعل الوجود الإسرائيلي الصهيوني في وادي موسى ومدينة البتراء ممكناً وقانونياً، وهذا يخدم هدفين: تهيئة واقع جديد يتستر به وجود اليهود الإسرائيليين في المنطقة، وتصويره على أنه إثبات أن إسرائيل ليست مشروعاً استعمارياً استيطانياً، بل إن تأسيسها وتوسعها امتداد طبيعي لتاريخ المنطقة. الهدف الثاني، ويراه الأردنيون يتحقق بأم أعينهم، تسويق مدينة البتراء بشكل غير مباشر، بل واضح في الدعايات السياحية الإسرائيلية، جهة سياحية، من دون الإشارة إلى الأردن بكلمة. وقد أخذ هذا التلميح الإسرائيلي باستيلاء تاريخي على البتراء بعداً جغرافياً، بعد بناء مطار النعناع القريب من الحدود، بحيث يصل السائح الأجنبي إلى البتراء عن طريق المطار، ويصبح الأردن نقطة عبور إلى البتراء، وكأن الأردن كدولة اختفت، حتى وإن تم ختم الجوازات في العقبة، فالمعركة ليست جغرافية بالمطلق، بل نفسية أيضاً.
لا يوجد أي سبب للأردني عدم الربط بين سيناريو الفيلم وأهداف إسرائيلية، إذ إنه يتناسق مع تطورات محسوسة، أهمها ظهور فيديو لمئات من السيّاح الإسرائيليين يمارسون طقوساً دينية في موقع يعتقد اليهود أنه مقام النبي هارون، تزامن مع الكشف عن سيناريو فيلم جابر، ومع الطلب من مجلس النواب الموافقة على قانونٍ يتيح للأجانب الاستثمار في مدينة البتراء، من دون استثناءٍ للإسرائيليين أو حتى شرط معرفة بلد المنشأ، وكلها من منتجات اتفاقية وداي عربة بين الأردن وإسرائيل، لتعميق التطبيع وتوسعته، بمعنى قبول المشروع الصهيوني العنصري في مقابل علاقات طبيعية، وأن نتعامى عن جرائم تحدث أمامنا، بل نتواطأ معها. والمشكلة ليست في السماح لليهودي الصلاة، وإنما في أن هناك استعمالاً صهيونياً للدين، بدأ منذ تأسيس الحركة الصهيونية لشرعنة مشروعها الاستيطاني، وفي سياسات إسرائيلية مستهترة بالسيادة الأردنية، وخطة أميركية لا تهدف إلى إنهاء الاحتلال، بل تثبيته وجعله حقيقة قانونية ومشروعة، على العرب قبولها رسمياً ليس احتلالاً غير قانوني، بل حقاً إسرائيلياً في فلسطين التاريخية. لذا يتخذ كل حدث بعداً سياسياً، ينطلق من الواقع المعاش، وخصوصاً على أرض فلسطين. ولكن المشروع الصهيوني في هذه المرحلة بحاجةٍ إلى تجذّره في كل المنطقة، حتى إذا تطلب ذلك احتلالاً إسرائيلياً، أو على الأقل فرض وجود أمني إسرائيلي بذريعة الأمن أو حماية اليهود، وخصوصاً أن الإدارة الأميركية اعترفت، أول مرة ورسمياً، بضم هضبة الجولان السورية. ومخاوف الشعب الأردني مبرّرة، أياً كانت الأغراض الإسرائيلية، فالادعاء أن الأردن جزء من أرض إسرائيل موثق في أدبيات الحركة الصهيونية، ففي عام 1929 كتب زئيف جابوتنسكي، وهو أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، شعراً يقول فيه "لنهر الأردن ضفتان وكلتا الضفتين لنا". وفي تحريف متعمد لسفرٍ من التوراة، بقوله "لتقطع يدي اليمنى، في حال نسيت الضفة الشرقية لنهر الأردن". وقد تمسك أول رؤساء إسرائيل، حاييم وايزمان، فترة، بشعار إسرائيل الكبرى التي تضم ضفتي نهر الأردن.
لذلك غريب أن يختار كاتب فيلم "جابر" ومخرجه محيي الدين قندور، نظريةً تتماهى مع نظريات صهيونية موجودة أصلاً. لا أعرف دوافعه، وليس لدي أدلة غير النص. وثمّة الحاجة إلى أجوبة، ليس عن السيناريو، بل عن المصادفات الغربية التي تجعل أغلبية الأردنيين في خوف وشكّ يتجذر من مرحلة مقبلة أسوأ من المعلن عن صفقة القرن، فمرور الوقت لا يعني تلاشي المصداقية فحسب، بل ما يدور من حديثٍ لا يخلو من اتهامات خطيرة، مصدرها الشعور بأن الأردن غير محمي، وليس مُصاناً.