عبد التواب بركات
1 مارس 2020
تناولت في مقال سابق صفقة استيراد مصر الغاز الطبيعي من الكيان المحتل، والبالغة قيمتها 20 مليار دولار ولمدة 15 سنة، والتي دخلت حيز التنفيذ في منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وهي الصفقة التي اعتبرها الجنرال عبد الفتاح السيسي إنجازا يحسب له، ويحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة كان يحلم به منذ اعتلى كرسي الحكم، وعبّر عنه بقوله: "احنا جبنا جون يا مصريين في موضوع الغاز".
وأشرتُ في المقال إلى حفاوة حكومة الاحتلال البالغ بالصفقة حتى اعتبرتها إنجازا غير مسبوق، ووصفها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالتاريخية، واعتبر يوم إبرام الصفقة عيدًا لإسرائيل، وطالب وزير الطاقة بأن يكون يوم عطلة رسمية لبلده.
والآن يستخدم نتنياهو الصفقة في دعايته الانتخابية ويضعها على رأس إنجازاته، ويراهن عليها في الفوز في سباق الانتخابات حتى يستمر في منصبه، ومن ثم يفلت من السجن الذي سيلاحقه في اليوم الذي يترك فيه كرسي الوزارة بسبب تهم بالرشى والفساد.
لم يذكر السيسي مبررا مقنعا أو فائدة اقتصادية لاستيراد الغاز الطبيعي من دولة الاحتلال، رغم اكتفاء مصر ذاتيًا منه.
كما لم يذكر أحد أعضاء الحكومة الإسرائيلية سبب حفاوتهم البالغة بالصفقة، سوى تصريح نتنياهو الذي قال إنها ترفد الخزانة العامة للكيان المحتل بمبلغ 10 مليارات دولار، ناتجة عن الضرائب والرسوم المقررة على الصفقة، والتي ستنفق في التعليم والصحة والسكن ورفاهية المواطن هناك.
لكن يظل هذا العائد صغيرا، لا يزيد عن 670 مليون دولار سنوياً. وبمقارنته بمخصصات خدمات التعليم والصحة والسكن في الموازنة الإسرائيلية، والبالغة أكثر من 115 مليار شيكل، أي ما يوازي 33.6 مليار دولار في عام 2019، نجد أن نسبته أقل من 2%، وبالتالي لا يكفي وحده لتبرير حفاوة نتنياهو الزائدة بالصفقة.
لكن، بمطالعة آراء خبراء الطاقة الدوليين حول التحديات التي تواجه ثروة الغاز الطبيعي الضخمة، التي أعلنت دولة الاحتلال عن اكتشافها في حقل ليفياثان، شرقي البحر المتوسط، في عام 2010، وجدواها الاقتصادية في ظل التحديات القائمة، وأهداف قادة دولة الاحتلال من وراء تصدير الغاز لمصر على وجه الخصوص، والأردن والسلطة الفلسطينية على وجه العموم، يظهر بوضوح السر الحقيقي لحفاوة حكومة دولة الاحتلال البالغة بالصفقة.
يتضح أيضًا حجم الخدمات الجليلة التي قدمها السيسي للكيان المحتل بإبرام الصفقة، مع عجز دولة الاحتلال عن الاستفادة من الغاز في ظل انسداد أفق التصدير أمامها طوال العقد الماضي كله. وكذلك يمكن التنبؤ ببعض تداعيات الصفقة على الاقتصاد والأمن القومي المصريَين، والتي ربما تفوق في خطورتها الخسائر التي مُنيت بها مصر بسبب تصدير الغاز لإسرائيل في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك بأسعار بخسة.
تكلفة مرتفعة
أحد هؤلاء الخبراء البارزين في مجال اقتصاديات الطاقة هو تشارلز إيليناس، كبير الباحثين بمركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي ومقره واشنطن، والذي شغل في الماضي منصب الرئيس التنفيذي لشركة قبرص الوطنية للهيدروكربونات، وكان مسؤولًا عن تنفيذ استراتيجية تطوير الحكومة القبرصية لقطاع الغاز الطبيعي.
يقول إيليناس في مقال له بعنوان "التحديات التي تواجه صادرات الغاز الإسرائيلية"، إنه منذ اكتشاف إسرائيل الغاز في 2010 وهي تحلم بالصادرات والثروة والنفوذ السياسي.
ومن أجل ذلك، أنفقت الأموال الضخمة لتحقيق الحلم، لكنها فشلت إلى حد بعيد في التوصل إلى نتائج، بصرف النظر عن الصادرات الصغيرة إلى الأردن ومصر، إذ إنها لم تصل إلى الأسواق العالمية.
التحدي الرئيسي من وجهة نظر إيليناس هو تجاري، فأسعار الغاز منخفضة على مستوى العالم، مثلا تبلغ في أوروبا، السوق المستهدفة لإسرائيل، ما يزيد قليلاً عن 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية.
ومن المتوقع أن تتراوح تكلفة استخراج الغاز في حقل ليفياثان ما بين 4 و5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، 1000 قدم مكعبة.
وباحتساب تكلفة النقل عبر خط أنابيب إيستميد، الذي وقع نتنياهو اتفاقا مع قبرص واليونان لإنشائه، ستكون في حدود 3.5 دولارات لكل مليون وحدة، وفقًا لدراسة أجرتها شركة الغاز العامة اليونانية وشركة إديسون الإيطالية، أكبر وأقدم شركة طاقة في إيطاليا وأوروبا، وبتمويل من المفوضية الأوروبية، سوف يصل هذا الغاز إلى المستهلكين الأوروبيين بسعر مكلف للغاية، لا يقل عن 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية .
ويرى إيليناس أنه عند الأخذ في الاعتبار تكلفة خط أنابيب النقل إلى إيطاليا، فإن هذا أمر متفائل، حيث من المحتمل أن تصل التكلفة الإجمالية إلى 10 مليارات دولار، وبالتالي تزيد تكاليف النقل عن 8 دولارات.
كما أن بناء خط الأنابيب يمثل تحديًا تقنيًا حتى الآن. والإرادة السياسية، سواء في إسرائيل أو في قبرص، ليست كافية للتغلب على انخفاض الأسعار. إذ إن غاز شرق المتوسط موجود في المياه العميقة، وهذا يجعل استخراجه مكلفاً.
ومن ناحية أخرى، يحظى خط أنابيب غاز إيستمد، أحد خيارات التصدير، بدعم سياسي قوي من إسرائيل، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ورغم ذلك، فإنه مشروع مكلف للغاية.
فمع سوق الطاقة العالمي التنافسي جدًا، ومع وفرة الإمدادات وبأسعار منخفضة من مصادر الطاقة المتجددة وأسعار الفحم، توجد صعوبة، وربما استحالة، بوصول غاز شرق المتوسط إلى الأسواق العالمية، باستثناء ربما من خلال مصنعي تسييل حاليين في مصر في إدكو ودمياط، بسبب انخفاض تكاليف الإسالة.
لكن حدث في مصر تحول جوهري يمنع من استيراد الغاز من إسرائيل، يستطرد إيليناس. ليس فقط أنها أصبحت مكتفية ذاتيا من الغاز، ولكن أصبح لديها أيضا فائض للتصدير.
نتيجة لذلك، قد لا يكون هناك مجال للغاز القبرصي والإسرائيلي في مصانع الغاز الطبيعي المسال في مصر. ورغم ذلك، فإن لدى إسرائيل توقعات كبيرة بأنها ستصدر معظم فائض الغاز إلى مصر، للاستخدام المنزلي أو للتسييل والتصدير، لكن هل يمكن ذلك؟
يستبعد إيليناس، لأن تكلفة استخراج الغاز من حقل ليفياثان تظل أعلى من الأسعار في أوروبا بمرة ونصف، حتى من دون إضافة تكاليف النقل والإسالة والنقل مرة أخرى لأوروبا ثم إعادة التغييز. ولكن ما استبعده إيليناس هو ما حدث بالضبط وقامت مصر باستيراد الغاز من دولة الاحتلال.
ويلفت إيليناس النظر إلى فساد آخر في صفقة تصدير الغاز من دولة الاحتلال إلى الأردن، وهي الصفقة التي قابلت معارضة في الشارع وداخل البرلمان الأردني.
يقول إيليناس، عند النظر إلى السعر المتفق عليه بين شركاء حقل ليفياثان والشركة الوطنية الأردنية للكهرباء، يتضح مدى مشكلة سعر الغاز الإسرائيلي. تفيد التقارير أن السعر هو 6 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وهو ضعف السعر في أوروبا البعيدة عن الأردن!
ومن المرجح أن يكون سعر الغاز الإسرائيلي، الذي يصل إلى مصر، أعلى من الأردن بسبب ارتفاع تكاليف خطوط الأنابيب. وهذا من شأنه، حسب إيليناس، أن يجعل تسييله وتصديره إلى أوروبا أمرًا غير مجد اقتصاديا.
ومع إضافة تكاليف الإسالة، وتكاليف النقل بالسفن ثم تكاليف إعادة التغييز، فإن هذا الغاز لن يكون قادرًا على منافسة أسعار الغاز المنخفضة في أوروبا. ويؤكد أن وفرة إمدادات الغاز تبقي أسعار الغاز منخفضة في أوروبا لفترة طويلة.
تحدي الأمن
الخيار الآخر أمام إسرائيل لتصدير الغاز الطبيعي، هو أن تدشن محطة لإسالة الغاز على شواطئها تشبه محطتي إسالة الغاز الموجودتَين في مصر، وهو خيار عارضته جماعات حماية البيئة بشدة بسبب تلوث البيئة بالغازات الكبريتية السامة، ونجحت عن طريق القضاء في إفشاله، وكادت أن تنجح بنفس الطريقة في إيقاف العمل في حقل ليفياثان الذي تقوم عليه الصفقة.
كما أن إقدام دولة، تعادي كل جيرانها، على إنشاء محطة لإسالة الغاز، خيار ساذج من الناحية الأمنية. وقد كتب سايمون هندرسون، وهو خبير مهتم بغاز شرق المتوسط، ويعمل كبيرا للباحثين في معهد واشنطن ومديرا لبرنامج الخليج وسياسة الطاقة في المعهد، مقالًا قال فيه إن كل منشآت النفط والغاز تصعب حمايتها، وإن مقذوف آر بي جي يمكن أن يدمرها بسهولة.
وكشف هندرسون عن أن البحرية الإسرائيلية طلبت بالفعل تمويلا لتوسيع قدراتها العسكرية، بالنظر إلى إمكانية إقامة منشآت مهمة في البحر المتوسط.
وقال إنه من الممكن لأغراض التصدير أن يتم تثبيت منشأة للغاز المسال على حقل ليفياثان، لكن التكلفة التي تصل إلى مليارات الدولارات، والحجم الكبير، الذي يعادل أربع حاملات طائرات، سوف يجعلانها كابوسا أمنيا.
التطبيع
هناك هدف آخر غير معلن في الصفقة؛ فقد كشف خبراء في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي أن صفقة الغاز تعد مصلحة أمنية لإسرائيل لكونها تربط الدولتين، مصر وإسرائيل، برباط عضوي في مواجهة تهديدات استهداف منصات الغاز الطبيعي الإٍسرائيلي في عرض البحر من المقاومين في حماس وحزب الله.
وقالوا إن هذه الصفقة تعمل على تطبيع علاقات إسرائيل مع جيرانها من خلال إنشاء شبكة من المصالح المتبادلة، وفتح إمكانية التعاون الإقليمي في ما وراء موضوع الغاز الطبيعي، مثل تصدير واستيراد الكهرباء والمياه المحلاة.
وبالتالي، فإن استهداف تلك المنصات من حماس أو حزب الله لن يضر بإسرائيل وحدها، بل سيضر أيضا بمصالح مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وإن هذه المصالح المشتركة تعدُ ذات أهمية كبيرة جدا في تعزيز التعاون الأمني والاستخباري مع دول الجوار العربي لمنع وقوع عمليات تستهدف منصات الغاز لديها.