وائل قنديل
من السذاجة أن يتصوّر أحد أن الإسراع بفرض"صفقة القرن" مناورة انتخابية، لتدعيم فرص فوز دونالد ترامب بفترة رئاسية جديدة، أو تعزيز حظوظ بنيامين نتنياهو في رئاسة حكومة الكيان الصهيوني.
القصة ليست بنت اللحظة، ولا هي لعبة انتخابات، بل هي تتويجٌ للمشروع الصهيوني الذي وضع به شيمون بيريز، قبل ثلاثة عقود، حجر الأساس للشرق الأوسط الإسرائيلي، ثم بدأ التشييد الفعلي له مع تلك اللحظة الكريهة التي نجحت معها تل أبيب في تحويل أكبر دولة عربية إلى "مستوطنة" يحرُسها حاكمٌ تابع بالمطلق للكيان الصهيوني، اسمه عبد الفتاح السيسي.
لا شيء يُترك للمصادفة عند إسرائيل، فكل خطوة محسوبة قبل اتخاذها بعشر سنوات على الأقل، ومن يراجع مسيرة العقود الأربعة الأخيرة لن يحتاج كثيرًا من الجهد أن الصهيوني تخلّص من كل معوقات مشروعه، ولم يتبق أمامه سوى الشعوب العربية.
منذ تركيع مصر بكامب ديفيد، ثم الإجهاز على العراق، مرورًا بأوسلو وقتل ياسر عرفات، ثم حصار غزة وتجويعها وتدميرها بدل المرة عشرا، وأخيرًا نزع مخالب إيران، والهدف الأخير هو تلك اللحظة التي يعلنون فيها الشرق الأوسط منطقة نفوذ إسرائيلي.
كان الشعب العربي هو المعضلة التي تهدّد هذا المشروع، وخصوصًا بعد ربيع عربي رفع أعلام فلسطين ونفض عن الذاكرة المعطلة غبار التطبيع والتبعية، فكان لا بد من إشعال النار في هذا الربيع، والبداية من القاهرة: معاقبة شعبٍ انتخب رئيسًا لا يلتزم بحدود الدور المرسوم لأي حاكم عربي كي يستمر في الحكم.. هكذا جاءت الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 لتكون بمثابة الانتصار الصهيوني الأهم بعد نكبة 1948 ثم هزيمة 1967، وبالتداعي، دارت آلة قتل الشعب العربي الثائر في سورية وليبيا واليمن، وبذلك أزيلت العقبة، وتم التخلص من "العدو"، كما حدّده نتنياهو، وهو "الرأي العام العربي"، بنص عباراته، ونجحت عملية إنقاذ وتثبيت منظومة الاستبداد العربي، بعد أن أوشكت الشعوب على إسقاطها.
كان الهاجس في غابر الأيام هو دمج الكيان الصهيوني في المحيط العربي، أما الآن فصار المطلوب، أو المعروض هو تذويب الوجود العربي كله في "إسرائيل الكبرى" التي تُمسك بمفاتيح كل شيء، وتتحكّم في الغاز والمياه والعروش والجيوش.
هذا هو جوهر ما أعلنه دونالد ترامب، في ظل صمت عربي رسمي متوافق، بل متواطئ، مع ما تسمّى صفقة القرن، التي يريد الرئيس الأميركي البدء في فرضها أمرًا واقعًا، لتصبح المنطقة العربية كلها خاضعةً للتاج الصهيوني، ويتحوّل الشعب العربي عن بكرة أبيه إلى "عرب إسرائيل"، وهو مفهوم مختلف عن "عرب 48" الذين هم فلسطينيون واقعون تحت الاحتلال، يرفضونه ويرابطون دفاعًا عن القدس وفلسطين القديمة، فيما لن يكون الأمر كذلك مع "عرب إسرائيل الكبرى" الذين سيكون مطلوبًا منهم مواجهة سلطتين، إن فكّروا في الرفض والمقاومة: سلطة الاحتلال الصهيوني الصريح وسلطات عربية تحت إمرة الاحتلال.
بموجب صفقة ترامب الإجبارية، ستصبح إسرائيل المعيار للإسلام الصحيح، فلا يكون المواطن العربي مسلمًا حقيقيًا إلا إذا حصل على شهادة من أفيخاي أدرعي، بعد صلاة ركعتين يعقبهما الدعاء بالرحمات لضحايا هولوكوست النازي، واستنزال اللعنات على من يقاوم هولوكوست الصهيوني في فلسطين.. و يكون المسيحي العربي طيبًا إذا أنعش الخزانة الصهيونية بإنفاقه على رحلات الحج والزيارة، فيما يعدّ شريرًا كل من يقيم اعتبارًا لمقولة الأنبا شنودة الخالدة "لن أدخل القدس إلا بتأشيرة فلسطينية على جواز سفري، ومع صديقي شيخ الأزهر وإخوتي العرب، ولن يكون هذا إلا بعد أن يزول الاحتلال عن القدس، ويصبح المسجد الأقصى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية".
ويكون العربي الطيب هو الذي يدفئ بيته ويطهو طعامه بالغاز الذي يسرقه منه الصهيوني ثم يبيعه إياه، ويضحك ملء شدقيه سعيدًا بمجالسة مجرم حربٍ معتزلٍ مثل باراك، ثم يظهر منظرًا لدولة واحدة تهيمن عليها إسرائيل، ويعيش فيها الفلسطيني أقليةً، كما هو حال الإيغور في الصين .. وعكس ذلك هو العربي الشرير، ذلك الذي لا يزال يخبئ في صدره حلمًا بتحرير القدس وفلسطين.
الآن، أنت بمواجهة محاولة فرض جغرافيا جديدة وتاريخ جديد يُكتب بالعبري، لا بالعربي، فتحترق الخرائط وتنتحر السرديات، ليساق الشعب العربي إلى محرقة الواقع الإسرائيلي، فلا يبقى شيءٌ في موضعه.
لكن ذلك كله لن يمر لو استعاد الشعب العربي ربيعه وانتفض في وجه الاحتلالين: الاستبداد المغتصب للحكم والصهيوني المغتصب للأرض.
29 يناير 2020