عبد الحميد صيام
لا يكاد يمر يوم بدون أن نقرأ أو نسمع خبرا أو تسريبا عن علاقات بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، وبطريقة تدعو إلى الغثاء على هذا التهافت الرخيص لقيادات الصدفة، التي توجتها آبار النفط والحماية الخارجية، والارتماء في أحضان قوى الشر العالمية التي ما فتئت تفكك هذه الأمة، وتدمر مقدراتها، وتجزئ مكوناتها وتمكن أعداءها وتنهب ثرواتها، وتزرع بينهم الفتنة والفرقة والاقتتال، ثم تهزأ منهم وهي تجرف أموالهم على طريقة المافيات.
في البداية نؤكد للمطبعين والمهرولين وعشاق الكيان الصهيوني والنائمين في فراشه والمتوسلين على أبوابه، طالبين الرضى منه، أنهم يتصرفون ضد إرادة شعوبهم من جهة، ومن جهة اخرى فإن الشعب الفلسطيني لن ينكسر ولن ينحني، وأن صمت القيادة الرخوة التي فرطت بالوطن والحقوق، لا يعني أن الشعب الفلسطيني المناضل يؤيد التطبيع، لا مستوره ولا علنه، ولا من لبس ثوب الرياضة، أو وصل سائحا، ولا من جاء للتنسيق الأمني، ولا من زار الوطن تحت أي غطاء، فالشعب الفلسطيني يعتبر التطبيع أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا، كما قال الرئيس التونسي الذي يمثل مشاعر شعبه بدون تزوير «إن التطبيع خيانة».
استفزتني مجموعة من الأخبار مؤخرا كان منها، قرار دبي السماح للسياح الإسرائيليين المشاركة في معرض «إكسبو» العالمي في دبي، حسبما ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، التي قالت يوم 6 نوفمبر، إن أبواب الدولة العربية ستفتح أمام السياح الذين يحملون جواز سفر إسرائيلياً، مع افتتاح معرض «إكسبو» العالمي في دبي، في أكتوبر 2020. واستفزني خبر رفض منح تأشيرة لدخول الإمارات لمفتي الديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين، للمشاركة في مؤتمر دولي، بينما منحت تأشيرات لوفود رياضية إسرائيلية. كما كشفت القناة الثانية عشرة الإسرائيلية مساء الاثنين الماضي، عن اتفاق وشيك بين إسرائيل ودول الخليج، أشرف عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، للتطبيع الكامل، والتعاون الأمني والاقتصادي. وما استفزني أيضا أن يعلن المغرب عن تسيير رحلات جوية لشركة إسرائيلية «فلاينغ كاربت» أي «بساط الريح»، كما أحب أن أترجمها، بداية من 2020 بين تل أبيب والدار البيضاء، تتسع لتصل إلى مراكش وطنجة ووجدة، والحكايات تطول وتوجع ولا يملك من يغار على هذه الأمة، التي ألحق بها حكامها كل هذا الهوان، أن يقف ويصرخ وينبه ويحذر.
وأود أن أركز على التطبيع المغربي الرسمي مع إسرائيل، وليس الشعبي. لقد وصل التطبيع الرسمي مع إسرائيل مرحلة يودع في السجن من يناهض التطبيع، كما حدث مؤخرا عندما قامت السلطات المغربية باعتقال أحمد ويحمان رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي قاد احتجاجا يوم 26 أكتوبر ضد معرض للتمور تشارك فيه شركة «نيتافيم» الإسرائيلية. وقد سبق أن اعتقلت السلطات ثلاثة ناشطين في سبتمبر 2018، لأنهم احتجوا على حفل للمغنية الصهيونية الضابطة السابقة في سلاح الجو نوعام فازانا. لهذا رأيت أن أخصص مقالتي للتطبيع من البوابة المغربية، فمناهضة التطبيع تصبح في المغرب الجريمة وليس العكس.
تاريخ العلاقات المغربية مع الكيان الصهيوني
الملك محمد الخامس منع سفر اليهود إلى المغرب بين عامي 1956 و1961 فاضطر الموساد أن يقوم بدور التهجير. لكن بعد وفاته عقدت صفقة تجارية تم التوصل إليها بين الحكومتين، لترحيل اليهود المغاربة مقابل مبلغ من المال، كما ذكرت جريدة «هآرتس» ونشرت وثائق في الموضوع. ومن عام 1962 والنظام المغربي في علاقات منوعة ومهمة مع إسرائيل، وتلك العلاقات لم تنقطع نهائيا بشكل جذري حتى الآن. تعززت العلاقة بعد أن ساعد جهاز الموساد نظام الحكم بالتخلص من الثائر المغربي المهدي بن بركة، الذي تم تذويبه في الأسيد عام 1965 مقابل تمتين العلاقات مع المغرب، وتسهيل هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل. ولم يبق هناك أي شك في دور الموساد في قتل بن بركة، بعد نشر الصحافي الإسرائيلي رونن بيرغمان، كتابا مهما حول عمليات الاغتيال التي نفذها الموساد تحت عنوان: «إنهض واقتل أولا- التاريخ السري لعمليات الاغتيال المستهدفة». وصل إسرائيل من المهاجرين المغاربة بين 1948 و1963 ما يزيد عن مئة ألف مهاجر مغربي. لقد كان يقدر عدد سكان يهود المغرب بربع مليون يهودي عام 1948 لم يبق منهم في المغرب عام 2017 إلا نحو 2000. لقد ظل اليهود المغاربة أعلى نسبة سكان من بلد واحد في إسرائيل لغاية تدفق المهاجرين الروس بعد عام 1990.
بعض الكتاب لم يصدقوا ما ذكره محمد حسنين هيكل من أن الموساد استقبل في الفندق نفسه، الذي عقدت فيه القمة العربية عام 1965 في الدار البيضاء، وأن نسخة كاملة من المحضر حملها الموساد، وعاد بسلام إلى تل أبيب. لكن جاء التأكيد من تل أبيب لاحقا، فقد قدم الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية شلومو غازيت، معلومات جديدة حول علاقة دول عربية بإسرائيل في العقود الأولى لتأسيس الدولة، إذ قال إن ملك المغرب السابق الحسن الثاني، أمر بتخصيص جناحٍ كامل في الفندق الذي عُقدت فيه القمة العربية لرجال الموساد الإسرائيلي، لكي يتمكنوا من توثيق وقائع المؤتمر، وبالفعل تمكنوا من تسجيلات القمة العربية التي استضافها المغرب عام 1965، ممّا هيّأ لإسرائيل سبل الانتصار في حرب 1967، وهو قول لم يستبعده المؤرخ المغربي المعطي منجب. وقال شلومو غازيت، في حوار نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» 13 أكتوبر 2015، إن الحسن الثاني، لم يكن يثق في قادة عدد من الدول العربية، فقد مكن إسرائيل من الحصول على تسجيلات سرية لكل ما دار في القمة العربية بالمغرب عام 1965، ما أتاح للقيادة الإسرائيلية برئاسة رئيس الوزراء حينئذ، ليفي أشكول، من الاطلاع على كل ما دار بين الزعماء العرب.
ويقول رئيس شعبة الموساد، حسبما جاء في تقرير الصحيفة: «عندما حصلنا على الوثائق تبين لنا أن جميع قادة الجيوش العربية أكدوا خلال إلقائهم كلماتهم في المؤتمر على أن الجيوش العربية ما زالت بعيدة عن أن تكون جاهزة، ومستعدة لخوض الحرب ضد إسرائيل. وشدد في سياق حديثه على أن هذه المعلومات كانت بالنسبة لإسرائيل أكبر كنز إستراتيجي، حيث قام الموساد، الذي يتبع مباشرةً ديوان رئيس الوزراء، بتزويد المستوى السياسي بالمعلومات القيمة، عن عدم استعداد الجيوش العربية للمواجهة العسكرية. ويتابع التقرير «إنّ هذه المعلومات كانت السبب الرئيسيّ في اتخاذ إسرائيل القرار بشنّ الحرب على الدول العربيّة في يونيو عام 1967 وإلحاق الهزيمة النكراء بكلٍّ من مصر وسوريّا والأردن».
لم يتوقف التطبيع بين المغرب وإسرائيل لحظة واحدة، حتى مع إرسال المغرب قوة صغيرة رمزية للمشاركة في حرب 1973 لضرورات المرحلة. لكن المغرب بدأ يقترب أكثر من أنور السادات، وكأنه مكلف وقد تم ترتيب صفقة التسوية المصرية الإسرائيلية في المغرب، كما هو معروف ولم يعد سرا. فمنذ السبعينيات أصبح هدف المغرب هو إنجاز تسوية شاملة للصراع العربي، ولهذا شكّل المغرب المدخل إلى الولايات المتحدة من أجل تجسير الفجوة بين مصر وإسرائيل، حيث يذكر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كيسنجر أن انطلاق أول زياراته الشرق أوسطية ابتدأت بالمغرب كأول محطة، بتاريخ 05 نوفمبر 1973، قبل أن يصل القاهرة. وقد تمثل الإسهام الأول للمغرب في تفعيل الوساطة بين مصر وإسرائيل بعد زيارة إسحاق رابين للمغرب سنة 1976، حيث حمل معه مقترحات للتسوية مع مصر. وقد نقل الملك الحسن الثاني الرسالة التي تسلمها من إسحاق رابين إلى الرئيس المصري أنور السادات، ثم كان الإسهام الأبرز في طريق التسوية بين مصر وإسرائيل هو احتضان المغرب للقاءات السرية المصرية – الإسرائيلية خصوصا بعد زيارة أنور السادات للقدس عام 1977، كان أهمها لقاء الصخيرات بتاريخ 22 سبتمبر 1978 ولقاء مراكش بتاريخ 03 فبراير 1979، لترتيب اتفاقيات كامب ديفيد. وبعد هذا الاختراق الذي أنجزه المغرب أصبحت الطريق سالكة بين البلدين، حيث حلّ شيمعون بيريز ضيفا على المخزن المغربي عام 1986 تحت حجة دفع جهود التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، «وتسهيل المفاوضات لبلوغ السلم»، كما وصل إيهود باراك عام 1999 ليشارك في جنازة الحسن الثاني. وفي عهد الملك محمد السادس توقفت العلاقات العلنية عام 2000 إثر الانتفاضة الثانية. لكنها في الحقيقة لم تتوقف في المجالات الثقافية والفنية والرياضية والسياحية، وصولا إلى هذا المستوى من العلاقات الذي نشهده الآن.
بقي أن أدلي بشهادة لله والتاريخ، وأقولها بكل صدق وعن خبرة ودراية، بعد أن عشت سنة كاملة مع الشعب المغربي، وزرت بيوتهم وطفت في مدنهم وقراهم، بأن الشعب المغربي من أكثر الشعوب العربية تأييدا ودعما للقضية الفلسطينية. إنها تسري في شرايينه كالدم في العروق، وتعيش في وجدانه، وكل مغربي يعتبرها قضيته الأولى (إلى جانب قضية الصحراء). أما أن يأتي التطبيع من فوق وبتوجهات عليا فهذا ما لا يستسيغه لا العرب ولا المغاربة وسينتهي إلى فشل ذريع.
7 نوفمبر 2019