ساري عرابي
بعد أيّام قليلة من إعلان ترامب ونتنياهو عن خطّتهما لتصفية القضية الفلسطينية.. يلتقي رئيس المجلس السيادي الانتقالي السوداني، عبد الفتاح البرهان، في أوغندا، برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بدعوة من الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني. وكما هو معلوم، فالمجلس الذي يرأسه البرهان هو المخوّل بالإشراف على المرحلة الانتقالية في السودان، بالاتفاق مع قوى إعلان الحرّية والتغيير، وهذا المجلس تنبثق عنه الحكومة التي قالت إنّها لم تعلم بلقاء البرهان ببنيامين نتنياهو إلا من وسائل الإعلام.
هذه الاتجاهات السياسية للحكم الجديد في السودان، الناشئ عن تحالف العسكر مع قوى إعلان الحرّية والتغيير، لا يمكن تبرئة العهد السابق منها، باعتبار أنّ سياساته هي التي صنعت هذا النمط من العسكر، وانتهت بفشل فجّر الاحتجاجات التي تمكّنت من إسقاطه. وفي الوقت نفسه، وبعد تسجيل كلّ ما يمكن قوله من نقد للعهد السابق، ولا سيّما بعض سياساته الأخيرة، فإنّه لا ينبغي أن يغيب عن تقييمه موقفُه من القضيّة الفلسطينية، الذي لم يَقْتَصِر على الدعم الخطابي، أو على العلاقة السياسيّة ببعض حركات المقاومة، ولكنّه وفوق ذلك، جعل من السودان ممرّا لإمداد المقاومة، وأرضا تبني عليها عتادها وقدراتها، مما وضعه في مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي.
بصرف النظر عن مآلات الاحتجاجات في السودان التي انطلقت اعتراضا على حكم البشير، وكيف صارت نتائجها، على الأقل في المرحلة الانتقالية، تحالفا مع جزء من المنظومة العسكرية، يشتغل في مرحلته هذه على إزاحة مُمَنهجة للإسلاميين، وإعادة هندسة الدولة والمجتمع على مقاس القادمين الجدد.. فإنّه، وبالاستفادة من التجربة السودانية هذه، لا بدّ من إعادة النظر في الاحتجاجات الشعبيّة وكيفية بلورتها سياسيّا، من جهة خطابها السياسي تجاه القضيّة الفلسطينية ومدى الوعي بعمق اتصال القضية الفلسطينية بقضايا العرب الخاصّة، ومن جهة الكيفية التي بات يتعامل بها الإسلاميون في العالم العربي مع هذه الاحتجاجات، من بعد الثورات العربيّة.
ما يمكن إجماله حين مراجعة هذه الاتجاهات، هو القول إنّه لا ثورة عربيّة مكتملة، إلا بإدراك تلك العلاقة العضويّة بين فلسطين والقضايا العربيّة. فالاحتلال الإسرائيلي في فتحه منافذ الدعم الأمريكي للأنظمة العربيّة، يشترط تخلّي تلك الأنظمة عن فلسطين، أو على الأقل شراء بعض المواقف الجوهريّة منها على حساب الحقّ الفلسطيني، وفي الوقت نفسه يهتمّ بألا تستمد تلك الأنظمة مشروعيّتها من شعوبها، ليحول دون انعكاس الموقف الشعبي الرافض لـ"إسرائيل" في السياسات الرسميّة، وحتّى لا تتمدّد أيّ حالة حكم سياسيّ شعبيّ في المجال العربي، كما يهتمّ في الوقت نفسه، بضمان استمرار التفوق الإسرائيلي، سياسيّا وعسكريّا وتنمويّا، لإدراكه أنّ تفوّقه ضمانة استراتيجية لبقائه، وشرط مكانته الاستعماريّة في موازين القوى الدوليّة.
والحاصل، أنّ الثمن الذي يُجنى من العلاقة بـ"إسرائيل" هو تكريس الدكتاتورية والتعبيّة والتخلّف. وهذه النتيجة شديدة الوضوح بأدنى نظر، وبمعاينة أحوال الأنظمة التي تتمتّع اليوم بعلاقات خاصّة مع "إسرائيل"، وملاحظة سياساتها.
والعامل الإسرائيلي، الذي يحضر في كلّ المجال العربي، وأكثر ما يكون حضوره في المجال اللصيق بـ"إسرائيل"، دون الوعي به وعيا صحيحا لن تتمكن أيّ حركة احتجاج عربيّة من تحقيق أهدافها، فهذا العامل له مساهمة جسيمة في إفشال بعض الثورات العربية، وحليف أساسي لقوى الثورة المضادة، سواء بالقوّة أو بالفعل.
والحال هذه، فإنّ الخطاب الذي ينبغي تعبئة الاحتجاجات العربيّة به، هو خطاب من بُعدين؛ الأوّل، القضايا الداخليّة التي تُمثّل الهمّ الأوّل للمواطن العربي على مستوى مباشرته اليوميّة في حياته، بما في ذلك تطلّعاته لحكم رشيد وعادل يضمن له حرّيته وكرامته، والثاني، القضيّة الفلسطينية، لا بكونها قضيّة عربيّة بحكم الوعي العروبي والديني فحسب، بل بكونها متّصلة بهمومه الأولى تلك. فالاحتلال الإسرائيلي عدوّه، كما ينبغي أن يكون، لأنّه نصير الأوضاع الظالمة الواقعة عليه، وعدوّه لأنّ مصلحته الاستراتيجية وشرط تفوّقه لضروراته الوجوديّة؛ في إبقاء البلاد العربيّة في تلك الأوضاع التي يَحتجّ عليها المواطن العربي ويثور، ومن كان يعتقد أنّه بحجب القضيّة الفلسطينية عن شعاراته، أو بالتخلّي عنها، سيُحقّق أوضاعا أحسن لبلاده، أو سيفتح ثغرة يستدعي بها دعما دوليّا لإنجاح ثورته، فهو واهم، كما هو مؤكّد الآن بمراجعة بعض ما حصل في محيطنا العربي.
من الجهة الأخرى، في ما يخصّ تعامل الإسلاميين العرب، ومنهم فلسطينيون، مع الاحتجاجات من بعد الثورات العربيّة، فإنّ القصور يبدو في التعاطف الواسع الذي لا يسأل عن موقع فلسطين من تلك الاحتجاجات، وهو سؤال ضروريّ سياسيّا لأجل القدرة على فهم الاتجاهات القادمة، ومستويات التأثّر بها، وإمكانيات التأثير فيها، وضروريّ لأجل الاحتجاجات نفسها، فكما سلف القول، فإنّ الثورة لا تكتمل، ولا تختطّ لنفسها طريقا صحيحا، إلا باكتمال البعدين فيها، أيّ بُعد المطالب الخاصّة وبعد القضيّة الفلسطينية. فعدالة المطالب ناقصة دون فلسطين، وقضية العدل والظلم مختلّة بالتخلّي عن فلسطين، وإمكانيات تحقيق المطالب ضعيفة بلا فلسطين.
دون هذا الوعي الشامل، بالقراءة السياسيّة الصحيحة لأيّ فعل احتجاجي والقوى المؤثّرة فيه، يكون التعاطفُ قاصر الوعي، محضَ خِفّة ثوريّة، وكمن يتعاطف مع ذبح نفسه، وإشاعة للسذاجة السياسيّة.
4 فبراير 2020