محمد أحمد بنّيس
لا يفوّت الكيان الصهيوني فرصة لتسويق سرديته المعلومة. ولأنه يدرك جيدا مقادير الزيف التي تتوطّنها، فإنه لا يتوانى عن تشغيل مختلف مؤسساته وأذرعه الثقافية والإعلامية لفتح الدروب المغلقة أمام هذه السردية، حتى ولو تزامن ذلك مع جلبةٍ ترافق حدثا في حجم اتفاق التطبيع الشامل الذي توصل إليه مع الإمارات.
مناسبة الإتيان على هذا الكلام الحملة التي تشنها أوساط صهيونية على إدارة المهرجان الدولي للشعر، الذي يقام سنويا في مديين في كولومبيا، على خلفية سحب دعوةٍ كان قد وجهها إلى الشاعرة الإسرائيلية لالي تسيبي ميتشائيلي (بالمناسبة مولودة في جورجيـا 1964!)، بسبب قصيدة لها بعنوان '' قصيدة إلى شاعر فلسطيني''. وقد رفض المشرفون على المهرجان إدراج القصيدة في القراءات الشعرية، لما تضمنته من موقف عدائي وعنصري صريح من الشعب الفلسطيني الذي يقع الدفاعُ عن حقوقه المشروعة في قلب الرسالة الأخلاقية والثقافية للمهرجان الذي انطلق قبل ثلاثة عقود. وأمام إصرار إدارة المهرجان على استبعاد القصيدة، تمسّكت الشاعرة بموقفها، ليُفاجأ المهرجان بدخول السفارة الإسرائيلية في بوغوتـا على الخط، في مسعى إلى رفع الحظر عن القصيدة والشاعرة. وعلى الرغم من تدخل الخارجية الكولومبية لإيجاد حل وسط، إلا أن إدارة المهرجان، التي يشرف عليها الشاعر فرناندو ريندون، أصرّت على موقفها، وأصدرت بيانا رفضت فيه استغلال الشاعرة المهرجان لترويج الطروحات العنصرية والاستعمارية المعادية للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولجوئها إلى ما سمّاها البيان ''ممرّات السلطة" للضغط على الإدارة كي تراجع موقفها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ سرعان ما تحرّكت منظمات ثقافية وإعلامية يهودية في كولومبيا وأميركا اللاتينية، معروفة بتأييدها إسرائيل، لتأليب الجهات الداعمة كي توقف تمويلها المهرجان، في مسعى إلى إرباك فعالياته وأشغاله التي تمتد، افتراضيا، حتى مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، هذا ناهيك عن اتهام إدارة المهرجان بالتهمة الجاهزة إياها؛ معاداة السامية.
تكشف واقعة الشاعرة الإسرائيلية عن الأهمية القصوى التي توليها إسرائيل للثقافة والأدب داخل مجرى السردية الصهيونية، لما لهما من تأثير ونفوذ كبيريْن، ولا سيما أنها تُدرك دور النسيج الثقافي الفلسطيني والعربي في إبقاء شعلة المقاومة متوهجة، على الرغم من اختلال ميزان القوى لصالحها على أكثر من صعيد. ولذلك تجدها تبذل جهودا حثيثة ليكون شعراؤها وكتابها وفنانوها حاضرين في مختلف الأنشطة والفعاليات الثقافية الدولية، مطبقةً، بذلك، سياسةَ عدم ترك المقعد فارغا، حتى لا يشغله الآخر الفلسطيني الذي تحوزُ سرديتُهُ شرعيتها من التاريخ والجغرافيا والثقافة، هذا علاوة على تشغيلها كل الموارد للحفاظ على ''توهج'' المشروع الصهيوني واستمراريته.
من هنا، لم يكن مستغربا أن تستقويَ الشاعرة بسفارة إسرائيل في كولومبيا للضغط على إدارة المهرجان كي تسمح لها بقراءة قصيدة في كراهية فلسطين، واستغلالِ منصّة المهرجان لتسويق خطاب ثقافي وسياسي مُعادٍ لحق الشعب الفلسطيني في التحرّر وإقامة دولته المستقلة. ولا ريب أن ذلك يتوافق مع الاستراتيجية التي وضعتها إسرائيل منذ سنوات لكسر المقاطعة الثقافية التي تتعرّض لها في بعض بلدان أميركا اللاتينية، والتي كان للمنظمات الثقافية، ذات الهوى اليساري الواضح، دور بارز في إذكائها مناصَرةً منها للحقوق الفلسطينية والعربية. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، حدث قبل سنوات أن أقامت السفارة الإسرائيلية في سان خوسي (كوستاريكا) الدنيا ولم تُقعدها بسبب ما اعتبرته انحيازا من إدارة المهرجان الدولي للشعر هناك باستدعائها المتواتر الشعراء العرب والاحتفاءِ بتجاربهم، في وقتٍ لا يحظى فيه الشعراء الإسرائيليون، أو بالأحرى ''الشعر الإسرائيلي''، بتلك المساحة المخصصة للشعر العربي.
يُدرك الصهاينة أن معركة الثقافة لا تقل شراسة عن المعركة السياسية والعسكرية التي ربحوا معظم جولاتها، إذ لا يتوانون، تحت غطاء الثقافة، عن ترويج سرديتهم بشأن الصراع، متوسلين، في ذلك، بشعاراتٍ من قبيل إشاعة السلام والتعايش بين الشعوب، ومكافحة الكراهية والتطرّف، والاعتراف بالآخر الذي لا يعني، وفق هذه السردية، سوى حلِّ مشكلة شرعية وجود إسرائيل، من خلال الاعتراف بها دولةً يهوديةً، وتكريسها قوة إقليمية كبرى مهيمنةً على شعوب المنطقة ومقدّراتها.
20 اغسطس 2020