فايز رشيد
إن أول استعمال معروف لكلمة «أبارتايد» كان عام 1919، خلال خطاب ألقاه جان كريستيان سماتس، الذي أصبح لاحقا أول رئيس وزراء في جنوب افريقيا، تبعه كثيرون، وقد قاموا بوضع قوانين نظام سمي في ما بعد «الفصل العنصري»، الذي سيطر على الحكم في الفترة 1948- 1994. وهو في حقيقته تركة من الاستعمار البريطاني، الذي أدخل نظام إصدار القوانين في المناطق القبلية التي يحتلها البيض، والتي كان يحكمها البريطانيون. كانت هناك أنظمة مماثلة في أستراليا وكاليدونيا الجديدة.
إن مجموعة القوانين المقيدة لحركة السود، لم تكن تحظر حركتهم في هذه المناطق فقط، ولكن أيضا تقيد حركتهم في التنقل من منطقة إلى أخرى، إلا بتصريح مرور من سلطات البيض. ولم يسمح للسود بالتواجد في شوارع المدن في مستعمرة الكاب وناتال، بعد حلول الظلام. قامت قوانين الأبارتايد بتقسيم الأفراد إلى مجموعات عرقية هي: السود، البيض، الملونون، والآسيويون (هنود وباكستانيون) وتم الفصل بينهم بحسب هذا التقسيم. ووفقا لقوانين الأبارتايد، فأفراد الأغلبية السوداء مواطنون من درجة ثانية يتوجب عليهم السكن في بانتوستانات- مخيمات خاصة بهم، ذات سيادة اسمية، لكنها كانت في الواقع أشبه بمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية.
عمليا، منع هذا الإجراء الأفراد غير البيض – حتى لو أقاموا في جنوب افريقيا – من أن يكون لهم حق الاقتراع في الانتخابات، إذ تم حصر تلك الحقوق في المواطنين البيض فقط. كما تم فصل أجهزة التعليم، الصحة، الخدمات المختلفة، المواصلات، وكانت الأجهزة المخصصة للسود، أسوأ وضعا بشكل كبير مقارنة مع تلك الخاصة بالبيض. لا تهدف هذه المقارنة للإثبات بأن نظام الفصل العنصري كان «أرحم» من عنصرية الكيان الصهيوني، فكلاهما نظامان مجرمان، سياساتهما ضد حقوق الإنسان، يستمدان أنظمتهما من بقايا القوانين النازية والفاشية والمفهوم العنصري، والاستعلائية والشعور الفوقي، تجاه الإثنيات الأخرى، باعتبار من ينتمي إليها لا يستحق الحياة. ومع ذلك، فإن النظام الصهيوني، أكثر بشاعة وإجراما في ممارسته من النظام العنصري البائد في جنوب افريقيا، بما يقترفه من موبقات ضد الفلسطينيين.
بالفعل، دائما يجري الربط في ممارسة الأبرتايد بين الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، هذا ليس عفويا، وإنما نتيجة لممارسات النظامين، الّلذينْ أدرجا العنصرية في قوانينهما وبنيتيهما، وحولاها إلى سياسة يومية منتهجة ضد الآخرين من السكان، في الحالة الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب عموما، وفي الحالة الجنوب افريقية تجاه سكان البلاد السود.
لقد أدرجت الأمم المتحدة والهيئات القضائية الدولية، نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا على جدول أعمال الأمم المتحدة منذ إنشائها، فقد طلبت الحكومة الهندية في 22 يونيو 1946 إدراج المعاملة التمييزية للهنود في اتحاد جنوب أفريقيا في جدول أعمال أول دورة للجمعية العامة. وفي العقود التي تلت، ساهمت الهيئة العالمية في الكفاح العالمي ضد الفصل العنصري عن طريق توجيه انتباه العالم إلى لاإنسانية النظام، وإضفاء الشرعية على المقاومة الشعبية، وتعزيز إجراءات مناهضة الفصل العنصري، التي تتخذها المنظمات الحكومية وغير الحكومية، وفرض حظر على توريد الأسلحة، ودعم فرض حظر نفطي ومقاطعة هذا النظام في العديد من المجالات. فيما يتعلق بدولة الكيان الصهيوني، فقد ارتكبت المنظمات الإرهابية الصهيونية: الإتسل، ليحي، الأرغون، الهاجاناة وشتيرن، قبل إقامة دولة إسرائيل 20 مجزرة ضد أبناء شعبنا الفلسطيني، كان آخرها مجزرة السرايا في 4 يناير 1948. هذه المجازر ابتدأت منذ عام 1937 في حيفا. وبعد إقامة الدولة حتى 11 مايو 2004 (تاريخ مجزرة مخيم رفح وبينا) 96 مجزرة رسمية، عدا عمن قتلتهم من الفلسطينيين منذ 2004 حتى الآن.
على ضوء هذه الممارسات اعتبرت 28 منظمة وهيئة دولية، معظمها تابع للأمم المتحدة، إسرائيل دولة عنصرية، الأمر الذي حدا بالجمعية العامة للأمم المتحدة، كنتيجة لممارسات الكيان الصهيوني الإجرامية والبغيضة، إلى إصدار القرار 3379 الذي اعتمد في 10 نوفمبر 1975، ونص على أن «الصهيونية حركة عنصرية وهي شكل من أشكال التمييز العنصري».
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، وظهور عالم القطب الواحد، استطاعت أمريكا انتزاع «إلغاء القرار» بموجب قرار جديد رقم 86/46 يوم 16 ديسمبر1991. ولكن هل أن ذلك يلغي عنصرية ومذابح الكيان الصهيوني؟ للعلم، لقد استخدمت الولايات المتحدة الفيتو 77 مرة في مجلس الأمن ضد قضايا وطنية وتحررية، لدول عديدة في القارات الثلاث، وإدانة الدول الاستعمارية من حليفاتها، وأعاقت صدور 53 قرارا، وهي استعملت الفيتو 36 مرة في مجلس الأمن ضد قرارات تدين إسرائيل.
في فلسطين بدأت المذابح ضد الفلسطينيين قبل إنشاء دولة إسرائيل (مثلما ذكرنا) ووفقا لمنظمة «عدالة» ـ المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، فإن هناك 45 قانونا تمييزيا ضد العرب في إسرائيل. لقد تعاملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مع فلسطينيي 1948 على أساس أنهم مواطنون من درجة ثالثة أو رابعة، فتم التوضيح في بطاقات الهوية للديانة كأساس للتمييز (مسلمين، مسيحيين، دروزا، شركسا، الخ)، كما أن فلسطينيي الضفة والقطاع لم يعتبروا مواطنين، ، وخضعوا باستمرار لمختلف أشكال التمييز والتنكيل والاضطهاد. بعد أربعة أعوام قضاها في القدس المحتلة، وأكثر من عقد في عاصمة جنوب افريقيا جوهانسبورغ وضع الصحافي البريطاني كريس مالغريل، دراسته المقارنة حول التمييز العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ونظام الأبارتايد في جنوب افريقيا. وإذ اعتمد على الشهادات والأحداث والأبحاث والأرقام، التي تكشف النقاب عن أبشع أوجه العنصرية في عصرنا الحالي، أكد أن «الابارتيدية الإسرائيلية» أشد بشاعة من شبيهتها التي كانت في جنوب افريقيا. وقد صرّح بأن «من تطأ قدمه إسرائيل الحديثة، وسبق له أن عرف جنوب افريقيا السابقة، يشاهد في إسرائيل عالم التمييز والاضطهاد المرير، بقدر يتفوق على ما كان في جنوب افريقيا». وزير الأمن الأسبق في جنوب افريقيا بعد القضاء على نظام الفصل العنصري روني كاسلر، وفي زيارته لقطاع غزة صرح قائلا، «نظام الفصل العنصري لدينا لا يشكل غرزة في ثوب العنصرية الفضفاض الذي ترتديه إسرائيل». هذا ما أكدّ عليه أيضا القس دزموند توتو في زيارته لإسرائيل وقطاع غزة.. وغيرهما الكثير. أما الإسرائيلي ميرون بنفنستي، فيرى أن «الرفض التام لتشبيه إسرائيل بجنوب افريقيا يدل على الوطنية والروح الصهيونية. وإذا تجرأ أحدهم وقام بدراسة الظاهرتين فسيتم الحكم عليه حسب النتائج التي يتوصل إليها، فإذا وجد تشابها يعتبر لاسامياً. وإذا أكد الاختلاف يعتبر فاشياً».
إسرائيل شردت ثلاثة أرباع مليون فلسطيني عنوة من وطنهم، وهدمت (وفقا لكتاب وليد الخالدي «كي لا ننسى») 500 قرية وبلدة فلسطينية، وغيرت الأسماء العربية للأماكن ، وتقوم بالاعتقال والاغتيال وهدم البيوت والتنكيل بالفلسطينيين، فلسطيني الجرافة، على سبيل المثال لا الحصر، قتل الطفل محمد أبو خضير في حضن والده. إسرائيل منذ احتلال باقي فلسطين عام 1967 صادرت معظم أراضي الضفة الغربية للاستيطان، وقامت بضم القدس وتعمل على تهويدها كما الخليل، وصباح كل يوم تصادر أراضي جديدة، آخرها منطقة الغور ومنطقة شمال البحر الميت. الضفة الغربية بالنسبة لها هي «يهودا والسامرة».
الملاحظ في القوانين العنصرية وفقا لـ»عدالة» ورئيسها: فالقوانين العنصرية في الكيان تدرجت من قوانين لها علاقة بالأرض، إلى أخرى تمس الإنسان الفلسطيني، ثم تحولت إلى قضية الهوية وصولا إلى حرية الرأي. نعم، في عام 1949 قررت أن ختم الدولة يشمل نجمة داود والشمعدان، وأن علمها هو علم الحركة الصهيونية، وأن تقتصر أيام العطلة المحددة في إسرائيل على الأعياد اليهودية. وفي مطلع خمسينيات القرن الماضي، صدرت قوانين لا تزال آثارها متواصلة، وهي قوانين أملاك الغائبين، والعودة، والمواطنة، والدخول إلى إسرائيل، وقانون شراء الأراضي.
سنّت إسرائيل قوانين تعتبر أن هدف جهاز التعليم هو «ترسّيخ المبادئ المذكورة في إعلان «إقامة دولة إسرائيل» «بترسيخ الهوية الصهيونية لدولة إسرائيل كدولة يهوديّة وديمقراطيّة ومضامين تستقبل القادمين اليهود الجدد»، إضافة إلى قانون يحظر تسجيل حزب، إذا كان ضمن أهدافه أو نشاطه، بشكل واضح أو ضمني، معارضة وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. وثمة قانون آخر يخول وزير المالية تقليص التمويل الحكومي أو الدعم للمؤسسة، التي تقوم بنشاط يعارض تعريف دولة إسرائيل كدولة «يهودية وديمقراطية»أو «يحيي يوم استقلال الدولة أو يوم تأسيس الدولة على أنه يوم حزن وحداد»، وقانون يمنع الموطنين الإسرائيليين والمنظمات الإسرائيلية من العمل من أجل فرض المقاطعة على المؤسسات الصهيونية، أو المستوطنات الإسرائيلية. القوانين الأخرى كلها على هذه الشاكلة.
4 مارس 2020