مهند عبد الحميد
يحتدم النقاش في وسائل التواصل الاجتماعي حول التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. بعض النقاش مسفّ ومبتذل ولا يخضع لمنظومة قوانين ومبادئ ( حقوقية وطنية إنسانية )، وبعض النقاش ينطوي على مسؤولية وجدية.
المستوى الهابط المتهافت له حضور وضجيج نابع من مواقف أصحابه الحادة، كالهجوم على الشعب الفلسطيني والدفاع عن دولة الاحتلال، وتأييد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وإنكار حقيقة المسجد الأقصى والترويج للرواية الإسرائيلية في ملكية المكان، ووضع العلم الإسرائيلي «لوجو» لبعض الناشطين، وزيارات للقدس وتل أبيب. هذا الصنف من المطبعين يتبنى رواية غلاة المتطرفين من اليمين الديني والقومي الإسرائيلي. وهو محط ترحيب اليمين الإسرائيلي الذي يوظف المطبعين المتهافتين في تثبيت الاحتلال والتنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة وفي اعتماد وممارسة سياسات استعمارية وعنصرية تنتمي إلى شريعة الغاب.
حقيقة الأمر، لا قيمة ولا خطر لهؤلاء المطبعين المتهافتين، على العكس من ذلك، لقد قدموا نموذجاً منفراً للتطبيع، وللعلاقة المهينة القائمة على الدونية مع المحتلين. لم يكن حضور هؤلاء حديث العهد، فقد شهدت الشعوب العربية ومن ضمنها الشعب الفلسطيني، وكذلك شعوب أخرى، اندلاق أفراد ومجموعات تحت مسمى «التوحد مع المعتدي» الناجم عن الشعور بالنقص والدونية التي تدفعهم نحو الذهاب إلى طرف أقوى يستطيع إعطاءه أهمية وحضوراً لطالما أخفق في تحقيقهما. الذهاب إلى طرف أقوى وإعلان الحرب على من يعتقد أنه ضعيف، حالة مرضية يعاني منها الأفراد الذين اعلنوا إعجابهم بدولة الاحتلال وبسياساتها العدوانية العنصرية.
وما كان لهؤلاء أن يخرجوا للعلن بدون تحولات سياسية في البيئة التي يعيشونها. والتحول السياسي الذي حدث هو من وجهة نظر هذه الدول: «بروز خطر وتهديد إيراني» قاد إلى تبديل مكانة إسرائيل بالنسبة للدول العربية الخليجية.
كانت إسرائيل على الدوام ضد بروز أي قوة إقليمية تهدد سيطرتها الإقليمية المكملة لهيمنة أميركا الدولة العظمى على صعيد عالمي. فقد رفضت إسرائيل الاتفاق النووي الإيراني 5+1 الذي يعترف بمكانة إيران الإقليمية، ورفضت دول الخليج بدورها هذا الاتفاق. واذا كانت إسرائيل ضد صعود إيران، وكانت ضد صعود العراق وسورية، فهل تسمح بصعود وتبلور قوة خليجية لها دور إقليمي شبه مستقل، وهي التي كانت ضد صعود مصر التي تربطها معها اتفاقية سلام، بل ما تزال حريصة على بقاء مصر ضعيفة وغارقة في أزماتها؟ لا شك ان إسرائيل تبحث عن توسيع نفوذها وسيطرتها الأمنية والاقتصادية وبخاصة مع دول لديها ثروات طبيعية ومستهلكة للسلع والأسلحة، وهي من موقعها كدولة استعمارية تبحث عن إقامة علاقات تبعية جديدة. وقد استثمرت في الخطر الإيراني الشيء الكثير وقدمت نفسها كحامٍ أمني يُعتدُّ به في مواجهته.
الهدف الإسرائيلي الأهم هو قلب المعادلة التاريخية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي استندت إلى حل القضية الفلسطينية من خلال إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، كشرط لإقامة الدول العربية علاقات طبيعية مع إسرائيل. أصبحت المعادلة إقامة علاقات مع الدول العربية أولا كمدخل لحل القضية الفلسطينية. ليس هذا فحسب، بل إن الحل المطروح ليس الحل المتفق عليه بل الحل الإسرائيلي العدمي الذي ظهرت مقدماته وعناصره في مشروع صفقة القرن – ضم القدس وشطب اللاجئين، وتشريع المستوطنات، والسيطرة على الموارد، وإلغاء مشروع إقامة دولة فلسطينية، وفرض نظام ابارتهايد من طبيعة كولونيالية- القفز عن حل عادل للقضية الفلسطينية، واستبداله بحل في السياق الاستعماري يكشف عن وجود خلل فادح في علاقات دول الإقليم. وعنوان الخلل انفصال مصالح الدول عن مصالح شعوبها، فأي تحالفات وحلول متناقضة مع مصالح الشعوب مصيرها الفشل والإخفاق، ولا تنتج غير الأزمات.
وفي الجهة الأخرى لا يمكن لإيران أن تتحول إلى دولة إقليمية مهمة اذا قفزت عن ثقة الشعوب بها، تلك الثقة لا تتوفر عبر خطابات التهديد والوعيد النارية التي تستخدم لبناء تحالف جديد، ولا تتوفر الثقة عبر المليشيات الطائفية وسياسة الانحياز لأنظمة ديكتاتورية. أن سياسة إيران التي لا تقيم وزنا لمصالح الشعوب هي الوجه الآخر لسياسة دول الخليج التي وجدت في إسرائيل حليفاً. سياسة إيران تغذي وجود خطر مشترك اسمه الخطر الإيراني الذي يجمع دولا عربية مع إسرائيل. اذا كانت إيران مع تحرر شعوب المنطقة من علاقات التبعية والهيمنة الأميركية الإسرائيلية، فإنها مطالبة بإزالة أو تصويب السياسات التي استفزت شعوباً عربية، وطالما بقيت سياساتها على حالها، فلا يوجد إلا تفسير واحد للسياسة الإيرانية هو تعزيز نفوذ إيران الإقليمي بأي ثمن.
كما نرى لا يوجد حلول من فوق، فقد اخفق النظام العربي ومبادراته في حل مشكلات الإقليم وفي حل القضية الفلسطينية، وجل ما يفعله النظام الإيراني هو توظيف الإخفاق واستخدام الورقة الفلسطينية في خدمة مصالحه الإقليمية.
النظام الدولي في ظل الهيمنة الأميركية كان السّباق في الإخفاق وقد وصلت مساعيه إلى الحضيض عبر إدارة ترامب التي تنفرد في تقديم حل عدمي محتكرة بذلك العملية السياسية بدون رد من الأطراف الدولية الأخرى، وبخاصة الاتحاد الأوروبي وفرنسا أصحاب المبادرات السابقة.
في مواجهة الإخفاقات العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك إخفاق الرهان الفلسطيني الرسمي على تلك الحلول، واعتمادها كخيار وحيد. أمام مسلسل الإخفاق تبرز ضرورة وأهمية بناء خيار آخر نابع من مصلحة الشعوب التي ليس لها مصلحة في التطبيع مع احتلال كولونيالي. إعلان ائتلاف خليجي لمناهضة التطبيع مع دولة الاحتلال ولدعم القضية الفلسطينية. المبادرة التي اطلقها مجموعة « شباب قطر ضد التطبيع» «وشباب لأجل القدس» وحركة مقاطعة الكيان الصهيوني وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه في الكويت» والجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع» هذه المبادرات كانت رداً مهماً ضد حمى التطبيع وضد تبييض دولة الاحتلال.
هذه المبادرات يلزمها سند فلسطيني يقاوم التطبيع من داخل وخارج فلسطين. الأهم من ذلك ما زال خيار المقاومة الشعبية في مواجهة صفقة ترامب والتحولات في المواقف العربية ضعيفا وغير فاعل. وهو يعاني من سيطرة حركة حماس على مسيرات العودة وتوظيفها لخدمة المصالح الفئوية. ويعاني من ترهل البنى السياسية ومنظمات المجتمع المدني في الضفة الغربية. لا شك في أن أي انطلاقة فلسطينية ستساهم في دخول قوى وفئات شعبية عربية وفي العالم ضد التوحش السياسي والاقتصادي والأمني العالمي والإقليمي. ولا شك أن الشعوب العربية ستهزم التطبيع.
20 أغسطس 2019