منى عبد الفتاح
29 نوفمبر 2018
لن يكون في مقدور بعض الدول الأفريقية أن تشذّ عن قاعدة التطبيع مع إسرائيل التي انتظمت فيها بعض دول الشرق الأوسط؛ فبين حين وآخر تناضل الدول المعزولة للظفر بدورٍ يُعتقد أنّه يتم في وقتٍ بدل الضائع للعبه على المستوى الإقليمي. وهذه تشاد، ذات الأغلبية المسلمة، والتي لا تقيم أي علاقاتٍ رسمية مع إسرائيل بعد مقاطعتها عام 1972عقب حرب عام 1967، تضامناً مع مصر، يزور رئيسها إدريس ديبي إسرائيل الأحد الماضي.
وبعد أن أفاقت تشاد من متابعة التواصل السري بينها وبين القادة الإسرائيليين، قرّرت إعلان عودة العلاقات في زيارة وصفها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بالتاريخية، وبأنها اختراق دبلوماسي آخر بعد زيارته سلطنة عمان.
لم تخلُ زيارة ديبي من انتهاز نتنياهو الفرصة، بإعلانه عن أمله في الوصول إلى "قلب أفريقيا"، وذلك بردّ تحية تشاد بأجمل منها، وهو إحياء العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها. كما تردّد أنّه يخطط لتقوية علاقات تل أبيب مع دول مجاورة لتشاد، وفي مقدمتها السودان ومالي وربما نيجيريا، وقد عرض الرئيس التشادي خدماته بإعلانه عن وساطته لتحقيق تطبيع علاقات إسرائيل مع السودان، والذي من أغراضه فتح المجال الجوي السوداني ممرّا آمنا وسريعا للطائرات بين إسرائيل والبرازيل التي أعادت علاقاتها معها أخيرا. ومن أجل هذه الخطوة على إسرائيل أن تضمن موافقة السودان على مرور الرحلات الجوية الإسرائيلية عبر أجوائه من أميركا الجنوبية وإليها.
وفي موقفها التطبيعي مع إسرائيل، على الرغم من قلة تفاعلها مع ما حولها من أحداث، إلّا من إثارتها بعض المشكلات المحدودة بين حين وآخر. وفي نموذج تشاد، تتجلى بالقدر الأكبر من الوضوح العواقب المترتبة على عجز الدول الأفريقية عن أي فعلٍ إقليمي ذي أثر، فدوماً هي بانتظار المقترحات من الخارج، لحلّ مشكلاتها المستعصية. وفي درس خطوة إدريس ديبي، يبدو أن من أسبابها علاقات تشاد مع جيرانها، وخصوصا السودان، ما يبرّر اتخاذ إسرائيل لها واحدة من دول الطوق الأفريقي، للإحاطة بالشرق الأوسط.
وينظر السودان إلى الطوق الإسرائيلي على الدول الأفريقية، والذي أحاط به إحاطة السوار بالمعصم، ميزة تجاوزته وتجاهلته عند مروره تاريخياً بمصر شمال الوادي ومخترقاً الهضبة الإثيوبية، ثم حديثاً مع دولة جنوب السودان وتشاد، فأخذت الحكومة تُظهِر تجاهلاً، نافيةً عقد نية التطبيع مع إسرائيل، غير أنه، في غير وقتٍ سابق، أُثيرت مسألة هذا التطبيع في أروقة الدبلوماسية السودانية، فقد صرّح وزير الخارجية السابق، إبراهيم غندور، بأنّ هذه المسألة تمكن دراستها، وأيّدت لجنة العلاقات الخارجية في مؤتمر الحوار الوطني التابعة لحزب المؤتمر الوطني (الحاكم) إقامة علاقات طبيعية مشروطة مع إسرائيل، باعتبار أنّ جامعة الدول العربية تدعم هذا الاتجاه، واقترحت اللجنة أن يكون التطبيع أحد توصيات الحوار. ويعتقد مسؤولون حكوميون أنّ نموذج التطبيع المراد هو الذي طبقته دول عربية وأفريقية مجاورة، من دون أن ينتقص من سمعتها شيئاً، بل مهّد الساحة للمساهمة في تسيير أمورها وحصولها على المساعدات وعبورها خط المناكفة الغربية في نهاية المطاف. والآن، وعلى نحوٍ لا يخلو من المفارقة، تأسست حقيقة مفادها أن لا أحد من هؤلاء المسؤولين المهرولين يرى أنّ أياً من هذه الحكومات المطبّعة تضمن لدولها إبحاراً سلساً وسط أمواج المصالح المتلاطمة، فلا الولايات المتحدة، ولا إسرائيل، تفكّر في غير مصالحها ابتداءً.
والواقع أنّ التصدي لمشكلات السودان المستعصية، وأولها نظام الحكم الذي أورد البلاد إلى موارد الفقر والحاجة، والتي تنطوي عليها اتجاهات العلاقات، فإنّ أي دولة تهتم بإقامة علاقات مع السودان تركّز بلا شك على ما يهمها، فالتعاون أخيرا بين الاتحاد الأوروبي والسودان فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب والتطرف العنيف والاتجار بالبشر، قدّم فيه السودان ما قدّم ولم يستبق شيئاً، ولكنه لم يكسب الرفع النهائي للعقوبات المفروضة عليه من الولايات المتحدة، بل ظلّ، في نظر الغرب، منتهكاً الحريات الأساسية، ومعبراً لنشاط تجارة البشر، فضلاً عن استمرار عزوف الشركات الغربية في الاستثمار والتعاون الاقتصادي معه.
وتدرك الخرطوم أنّ الغرب لا يزال يتعامل مع الرئيس السوداني، عمر البشير، على أساس أنّه مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، على خلفية جرائم حرب في إقليم دارفور. ولكن في تحركات واسعة من كبار المسؤولين في الخارجية الإسرائيلية طالبوا واشنطن بتحسين علاقاتها مع السودان، وحثوها على إزالته من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بعد قطع علاقاته بإيران في 2015. ولاقى ذلك توصية مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، توم شانون، في زيارته إسرائيل، منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ومباحثاته في سبل التعاون مع القارة الأفريقية، على خلفية زيادة النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي في القارة السمراء.
ويتلخص مفتاح تردّد الحكومة السودانية في التطبيع مع إسرائيل على إسرائيل نفسها في المقام الأول، ومدى تركيزها على المسائل الجيوسياسية، وما إن كان في وسع السودان أن يوفر صمام أمان إقليمي، ثم الحذر في التعامل المباشر معه، أسوة بالغرب والدول التي ترتبط مصالحها به.