وائل قنديل
يحشد العدو الصهيوني كل طاقاته، منذ ست سنوات على الأقل، لتثبيت حكم عبد الفتاح السيسي في مصر، وتمكين خليفة حفتر من السيطرة على ليبيا، وتدعيم بشار الأسد في سورية، وتصعيد محمد بن سلمان في السعودية، وتقوية نفوذ محمد بن زايد في الإمارات على كل هؤلاء.
السنوات ذاتها التي تخلّلها الوصول بالخلافات العربية/ العربية إلى حالة العداء الصريح والحروب المعلنة، بكل ما تشمله من جوانب اقتصادية واجتماعية، بل والاقتراب من مرحلة الاشتباك العسكري.
في الأثناء، صارت إسرائيل طرفًا في النزاعات بين العرب وأنفسهم، إذ أصبح كيد العربي للعربي يتطلب تحسين العلاقة مع الكيان الصهيوني، حتى وصلنا إلى مرحلةٍ باتت معها أطرافٌ توقن بأنها انتصارها على عدوها الشقيق مرهونٌ بصداقتها مع العدو التاريخي والتقليدي، الأمر الذي أسفر عن أن عواصم العرب صارت مفتوحةً أمام الصهيوني، سائحًا وزائرًا رسميًا ومشاركًا رياضيًا وعلميًا، كما لم يكن من قبل، وعرفت المنطقة العربية ما يشبه الماراثون التطبيعي، يتنافس فيه الإخوة الأعداء، في لحظةٍ تغلي فيها مشاعر الشعوب العربية بالغضب من توحش هذه الأنظمة، الوديعة للغاية أمام إسرائيل، على شعوبها.
كانت واشنطن وتل أبيب تدركان جيدًا أن حاجة الحاكم العربي إليهما تفوق حاجته إلى شعبه، أو احتياجه إلى أشقائه، بل بلغ الأمر حدود التحريض العلني من الدول العربية ضد بعضها عند الإدارة الأميركية، وفي ذلك تفوّق وأبدع عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر، وبدرجة أقل بشار الأسد الذي أودع مدّخراته من الولاء في بنك روسيا البوتينية، والذي هو في نهاية المطاف مفتوحٌ على تل أبيب.
على أنك لا يمكن أن تلوم الأنظمة الرسمية وحدها في هذا الانبطاح أمام الصهيوني المتحكّم، إذ انزلقت أقدامٌ محسوبةٌ على الثورات العربية في مستنقع الأوهام التي تذهب إلى أن التخلص من الطغيان والاستبداد يتطلب إظهار مرونةٍ ولغةٍ مهذّبة فيما يخص موضوع العلاقة مع إسرائيل وأميركا، وكم من أكاذيب بيعت في سوق النضال الثوري السوداء تم طرحها بصراحة ووقاحة، تقوم على ضرورة طمأنة واشنطن والغرب على أن البديل لن يهدم المعادلة القائمة في الشرق الأوسط، وسيكون ملتزمًا بالمواصفات المطلوبة أميركيًا لمن يحكم في مصر ومحيطها.
نعم، كانت الانتهازية غالبةً على تفكير متصدّري المشهد منهم إلى الحدّ الذي لم يكونوا يمانعون معه في التطبيع المستتر، أو التغاضي عن التطبيع الصريح، إعلاميًا وصحافيًا، وهي الانتهازية التي طالت ما تسمّى جبهات العمل الثوري التي تسامحت مع مقاولٍ هاربٍ بأمواله، لا بأفكاره ومبادئه، من معسكر السيسي، لكنها لا تتسامح أبدًا مع شيخ الأزهر وهو يتخذ مواقف تعد بطولية في مواجهة منظومة التدمير التي تستهدف الثوابت الدينية والوطنية والثقافية في مصر.. هي تلك الانتهازية، كذلك، التي رأت في سموم المعلق الصهيوني، إيدي كوهين، ما يستحق الاقتراب والاحتفاء والاستخدام سلاحًا ضد السيسي.
في ظل هذا المناخ الرائع، كيف لا تمضي واشنطن وتل أبيب في رسم الخريطة الجديدة، من دون أن يفتح حاكمٌ عربي فمه، معترضًا أو حتى مستفهمًا، ومن دون أن يصدر عن جامعة الدول العربية ما يثبت أن فيها بقايا حياة، أو حياء، ولم تفُح رائحتها جثتها المتحلّلة بعد.
وحده، محمود عبّاس، من النظام الرسمي العربي يحتج ويرفض، ويصرخ مناديًا على حل الدولتين، لكن أحدًا لا يجيب.
في أزمنةٍ ليست بعيدة، كان الخبر المنطقي في ظروفٍ أقل فجاجةً ووقاحةً من ذلك، أن يكون رئيس السلطة الفلسطينية قد جال على أربع عواصم عربية على الأقل، وبالتحديد ما تعرف بدول الطوق، وأن تصدُر من أي جحر من جحور السلطة العربية دعوةٌ لقمة عربية عاجلة للتباحث بشأن تلك التي هي أكبر من نكبة وأكثر من نكسة.. وكان من البديهيات أن تشتعل النقابات المهنية وساحات الجامعات العربية ببراكين غضبٍ وشلالات بكاء على الضياع الكامل لفلسطين، والانسحاق التام أمام العدو.
كانت تصنيفات الدول العربية تتحدّد على ضوء الموقع الجغرافي من الاحتلال، فكان لدينا مصطلح "دول الطوق" الذي اخترعه جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، ويعني ذلك الحزام الذي يطوّق العدو ويحاصره، ويشمل الأردن ومصر وسورية ولبنان .. الآن لم يعد ثمّة طوق، ولا أسورة، بل صار الكل خواتم في أصابع إسرائيل تقلبها كيف تشاء، ويتنافسون في "تثمين" جهود السيد ترامب، فيما انفردت مصر تحت حكم السيسي بدور حارس حدود إسرائيل الكبرى.
31 يناير 2020