معن البياري
تتعدّد انتهاكات النظام الذي يغتصب السلطة في مصر، وتتوزّع على غير صعيد، وتتنوّع في أكثر من مستوى. وقد صارت مصر الراهنة ملفّا حقوقيا بامتياز، بسبب فداحة المخازي التي لا يتوقف القضاء الملتحق بهذا النظام عن اقترافها، في إصدارِه الأحكام إيّاها، وكذا جرائم التعذيب والإهمال الطبي التي يرتكبها البوليس في السجون والمعتقلات. أما ما يسمّى إعلاما هناك، فأرطالٌ غزيرةٌ منه تُنبئك عن بؤسٍ مريعٍ يقيم فيها. من أجدّ الوقائع والشواهد على هذه البديهيات، في الأيام القليلة الماضية، أن مدرّس اللغة الإنكليزية، محمد مشرف، مات في سجن برج العرب، فالتحق بموكبٍ عريضٍ من قتلى الإهمال الطبي والتعذيب في زنازين النظام المتحدّث عنه، والذين تنطق إحصائيات منظماتٍ وهيئاتٍ مصريةٍ حقوقيةٍ مختصة إن أعدادهم تجاوزت ثمانمائة محتجز منذ انقلاب "3 يوليو" قبل ستة أعوام. وتزامن خبر وفاة هذا المواطن المصري الذي يحبس النظام اثنيْن من أبنائه أيضا مع إعلان عائلة الناشط الفلسطيني المصري، رامي شعث (48 عاما)، عن اعتقاله منذ 5 يوليو/ تموز الماضي، وفشل ما سلكتْه العائلة من مساعٍ "قانونيةٍ ودبلوماسية" من أجل الحصول على إفراجٍ عنه، وذلك في بيانٍ جاء على تفاصيل عملية اقتحام منزل الرجل، قال البيان إن السلطات المصرية أعقبته بترحيل زوجة شعث الفرنسية إلى بلادها، وإنه أمضى شهراً في زنزانةٍ صغيرةٍ في سجن طره، مع ثلاثين معتقلا، ومُنع من المشي في الخارج، ولم يتم السماح لمحاميه وعائلته بالتواصل معه.
ومع وجاهة البديهية إنه ليس من حق المشتغل في الإعلام أن يقضم مساحات غيره، فيبرّئ متّهماً أو يدينه، إلا أن استحالة الثقة بأجهزة النظام البوليسية في مصر وإجراءاتها، ومع الثقة التامة بأن تلفيق التهم، والافتئات على أهل الرأي والموقف المعارض (والمتحفّظ فقط أحيانا)، واختلال كل منظومة العدالة والتقاضي في البلد الذي انفرد فيه ناسُه القدامى، الفراعنة، بأنهم وحدَهم من بين أهل الحضارات القديمة من عرفوا آلهةً للعدالة، يجعلان الواحد منا يقبل ما أورده بيانا عائلة رامي شعث والحملة الشعبية في مصر لمقاطعة إسرائيل (BDS Egypt)، ورامي منسّقها وأحد مؤسّسيها، وزوجته متطوعةٌ فيها. وإذ تطلب العائلة التضامن مع ابنها، فإن هذه السطور تفعل ذلك، قناعةً بصدقيّة ما أكّدته أن ابنها لم يُمارس في حياته أي ممارسةٍ تضرّ بوطنيْه الفلسطيني والمصري، بسلامة مصر وأمنها ومكانتها، وبحرية فلسطين واستقلالها وعودة لاجئيها، ولم ير يوماً أي تناقضٍ بين الالتزاميْن. ولأن اتهام النيابة العامة الناشط المحترم بـ "الانضمام لجماعة مخالفة للقانون" يذكّر بأرشيفٍ أسود من لون هذا الكلام، سيق في غضونه مصريون نظيفون إلى الزنازين، ليس في وسع الواحد منا أن يقبض هذه التهمة على محمل الجد، سيما وأن واحدةً من جرائد عبد الفتاح السيسي (أخبار اليوم) أقدمت على تحريضٍ ضد نجل الوزير الفلسطيني السابق، نبيل شعث، وإيذائه، لمّا نسبت إلى مصادر (هكذا فقط!)، قولها إن رامي "تخلّى عن القضية الفلسطينية في مقابل التحالف مع جماعة الإخوان الإرهابية"، وإنه "هرب من الجهاد مع الوطن، وألقى بنفسه في أحضان الجماعة الإرهابية".
ولا يسَع قارئ هذا التشنيع المريب إلا أن يجده دليلا على صدق ترجيحاتٍ تعزو احتجاز رامي شعث (وترحيل زوجته)، ومصادرة حاسوبه ومتعلقاتٍ تخصه، إلى انتقادِه العلني مشاركة الحكومة المصرية في ورشة المنامة التطبيعية إياها، وإلى نشاطه السلمي في مقاطعة إسرائيل، وفي تبنّي خطابٍ مدنيٍّ حقوقيٍّ متقدّم، ضمن شبكة علاقاته المحلية والعربية، يناصر تطلعات ثورة 25 يناير التي شارك فيها. وإذ تنتصر لرامي شعث جموعٌ من الحقوقيين والمحامين والفاعلين المصريين والعرب، وتتوالى بيانات تشكيلاتٍ مدنيةٍ عديدة، تلحّ على وجوب الإفراج الفوري عنه، فإن هذا الجهد المحمود، والمطلوب، إنما يذكّر بأن مختطفين مظلومين في السجون المصرية تُشابه حالاتُ تلفيق اتهاماتهم محنة هذا الشاب الفلسطيني المصري، يحتاجون أيضا المؤازرة الدائمة، سيما وأن ظروف السجن والاحتجاز في سجون السيسي، بالتعذيب الشرس والإهمال الطبي فيها، تدلّ على فظاعتها ما تتوالى من أخبارٍ لا تتوقف عن قتلى يسقطون، ومرضى يعانون.. الحرية لرامي شعث ورفاقه.
26 أغسطس 2019