وائل قنديل
علق الاتحاد الأفريقي عضوية مصر، عقب الانقلاب العسكري على حكم الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي. هكذا رأت أفريقيا ما جرى في مصر انقلابًا صريحًا على الديمقراطية، يستلزم تعليق عضويتها.
لم يمرّ سوى عامٍ حتى تم إلغاء تعليق عضوية مصر، ذلك أن الراعي الرسمي لانقلاب الجنرالات استطاع أن يضغط ويناور ويحاور ويفاوض ويقايض، حتى رفع الإيقاف عن الجنرال الذي قدم حقوق مصر التاريخية في النيل مقدّم ثمن استعادة العضوية المجمّدة، وبعدها استمرت التنازلات، لتتحوّل مصر من الشقيقة الكبرى في القارّة السمراء إلى مجرد عربة متهالكة يجرّها جنرال بائس، ويمتطيها رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، في رحلته لفتح القارة السمراء.
في العام 2016، أطلق نتنياهو صيحته الشهيرة" إنني أخرج الآن في زيارة تاريخية في أفريقيا، نحن نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد". هكذا، بوضوح شديد، أعلنها فتحًا لإفريقيا، المستعصية على الكيان الصهيوني طوال عقودٍ خاضت خلالها دول القارة معارك التحرّر من الاستعمار الأوروبي، ونضالات الانعتاق من العنصرية، المتمثلة في نقطتين لا ثالثة لهما: عنصرية الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وعنصرية السيد الأبيض في جنوب أفريقيا. وطوال هذه العقود، كانت أفريقيا أكثر وضوحًا واستقامة من بعض العرب في الانحياز إلى الحق الفلسطيني.
بالتزامن مع تحرّك رئيس حكومة الكيان الصهيوني في عمق القارّة العصيّة على التصهين، كانت الصحافة العبرية تتحدّث عن عشق عبد الفتاح السيسي نتنياهو، إذ أعلن المعلق في صحيفة هآرتس، آرييه شافيت، أن نتنياهو أثبت أنه أكثر قادة إسرائيل قدرة على "التعامل مع الطغاة العرب"، مشيرا إلى أن بعض زعماء "المعسكر السني المعتدل في العالم العربي مثل السيسي مفتونون بنتنياهو"، مشدّدا على أن "من يتفق مع نتنياهو أو يختلف معه يقرّ بفضله في تحسين المكانة الإقليمية لإسرائيل".
واستباقًا لتوغله في أفريقيا، كان نتنياهو قد قام بغزوةٍ في جوف الليل إلى قصر الاتحادية، لم تتكشّف أسرارها إلا بعد إتمامها، حيث فضحت الصحافة الصهيونية كل شيء، ولم تستطع الدبلوماسية المصرية أن تنطق بكلمة واحدة، تمامًا كما أصيبت بالخرس مع أنباء منشورة في الإعلام العبري عن استدعاء السيسي للقاء مع نتنياهو في العقبة، في الفترة ذاتها تقريبًا.
الشاهد أن سبع سنوات من عمر انقلاب السيسي منحت الكيان الصهيوني في أفريقيا ما عجز عن الحصول على واحد بالمائة منه، منذ إنشائه على أرض فلسطين، إلى أن وصلنا إلى العام الذي تولى فيه عبد الفتاح السيسي رئاسة الاتحاد الأفريقي مطلع فبراير/ شباط 2019 فصارت إسرائيل في أفريقيا على نحو فاق أحلامها القديمة في الحصول على عضوية مراقب في الاتحاد الإفريقي، إذ استقبلت تل أبيب رئيس تشاد في العام 2018، ثم انفرط عقد المقاطعة الأفريقية الممتد على مدار نصف قرن، ليصبح للكيان الصهيوني 11 سفارة وبعثة دبلوماسة في القارة السمراء.
ينبئنا التاريخ بأن حضور مصر الحقيقية في أفريقيا كان يعني تلقائيًا الغياب الصهيوني الكامل، ولعل الموقف الأبلغ تعبيرًا عن تلك الحقيقة ما أعلنه زعيم ثوار جنوب أفريقيا الراحل، نلسون مانديلا، حين قال بعد فضيحة حصول مصر على "صفر" من الأصوات في انتخابات "الفيفا" 2010، وحصول جنوب أفريقيا على حق تنظيم المونديال: "لو كان عبد الناصر على قيد الحياة لانسحبت جنوب أفريقيا من أمام مصر، لكنها لم تعد مصر".
المفارقة أن أول من تكلم عن هذا التصريح هو وزير عبد الناصر ومهندس العلاقات المصرية الأفريقية في الخمسينيات والستينيات، محمد فائق، والذي تحول إلى وردة عجوز في عروة جاكيت عبد الفتاح السيسي، الذي بمجيئه قرّر الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية مصر التي كانت حاضرة وفاعلة في مسيرة دول القارّة نحو التحرّر .. الآن، نحن بصدد انقلاب تاريخي، إذ تطلبت عودة مصر إلى حضن قارّتها حضورًا صهيونيًا، أو بالأحرى فتحًا إسرائيليًا، لأفريقيا، ليصبح نتنياهو الضامن عند الدول الأفريقية لجنرالٍ خفيف الوزن، محدود القيمة يتولى حكم مصر.
ليس جنرالًا واحدًا في الحقيقة، بل صار لرئيس الحكومة الإسرائيليان جنرالان، يضعهما في إصبعيه، الأول جنرال شمال وادي النيل (السيسي) والثاني جنرال جنوب الوادي (عبد الفتاح البرهان) الذي اختار مدينة عنتيبي في أوغندا لإعلان تبعيته له، وكأنه ينتقم من ذاكرة التاريخ التي تحتفظ بآثار معركة خاضتها المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني في هذه المدينة.
الآن، صارت تل أبيب متحكّمة في نهر النيل من المنبع حتى المصب، إذ تفرض نفوذها ووصايتها على دول الأزمة الثلاث، إثيوبيا والسودان ومصر، ويمكنها الآن أن تقرّر وحدها وتضع الحلول، ومنها أن يصبح وصول النهر إلى إسرائيل، عبر أنابيب عبد الفتاح السيسي، هو الحل الذي يوافق عليه الشركاء الثلاثة المتنازعون، فمن يملك أن يقول لنتنياهو لا وقد صار زعيمًا لأفريقيا؟.
10 فبراير 2020