أسامة عثمان
واضح أن دولة الإمارات غيرُ آبهةٍ بتصديق ما تسوِّقه هي من مبرّراتٍ للهديَّة المبتذَلة التي قدَّمتها لأَعْند مسؤول احتلاليٍّ، وأكثرهم فسادًا، وتبجُّحًا، بنيامين نتنياهو، إذ سارع هذا وأعضاء اليمين الصهيوني إلى تكذيب ذريعتها أن اتفاق سلامها مع دولة الاحتلال لمنع الأخيرة ضمّها أراضيَ فلسطينية في الضفة الغربية؛ حين لم يُطِل نتنياهو السكوت؛ فأكّد أنّ الضم لا يزال مُدْرَجًا للتنفيذ، وهو أساسا لا يتوقّف عمليًّا، على الأرض.
ربما قصدت الإمارات التأجيل المؤقَّت للضم؛ حتى يتسنّى لها تخفيف حدّة الاستنكارين، العربي والإسلامي، وهذا أيضًا غير صحيح؛ فالتأجيل تمّ لأسباب مسبقة، من اشتراطات أميركية، بحدوث توافق حكومي إسرائيلي عليه، وَفْق التصوُّر الأميركي، وبسبب اعتراضات من المستوطنين؛ خشية أن يُفضي ذلك إلى تحجيم التمدُّد الاحتلالي إلى سائر الأراضي الفلسطينية، في الضفة الغربية، وأنّ الموافقة الأميركية على الضم، وفرْض السيادة الاحتلالية، سيكونا مشروطين بقيام دولة فلسطينية، ولو شكلية، فاقدة للسيادة والحدود.
لا يحتاج المتابع لمسار العلاقة الإماراتية الإسرائيلية إلى كبير تأمّل، ليستشعر عنصر الشعور بالنقص لدى حكّام الإمارات، تُجاه دولة الاحتلال؛ بتعظيم قدراتها العلمية والبحثية، كما في الكذبة المكشوفة عن التعاون في مكافحة وباء كوفيد 19، مع التَّعَامي عن فشل إسرائيل، دولةً وحكومةً، في إحراز نتائج مميّزة، مقارنة بدول أقلّ في القدرات والإمكانات، أو أنهم يحاولون ترويج ذلك للشعب الإماراتي الذي لم يُوقَف على رأيه، في دولةٍ تزعم إعلاءها قيم التنوير والديمقراطية والعلمانية؛ فهل سُئل الإماراتيون، وهم العرب، والمسلمون، أو استُفتوا في هذه الانعطافة الخطيرة؟!
صحيحٌ أن دولة الإمارات سعت إلى تجريع شعبها تلك الارتكابات، بالتدريج، ولكن الحدث، على الرغم من ذلك، لا يخلو من صدمةٍ وجدانية، إن لم نقل سياسية؛ لماذا يُحيَّد الشعب الإماراتي، وكأنه في نظر حكّامه شعبٌ قاصر، ولا يُسمح لأحدٍ من أبنائه، بمجرَّد الاعتراض الكلامي على التطبيع؟ هل يُعقل أن الأمر أضحى يحظى بإجماع شعبيٍّ متين؟!
حاول وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، أن يسلّي نفسه، بالقول إن ردود الفعل من أهمِّ عواصم العالم على اتفاق الإمارات مع إسرائيل مشجِّعة، وكأنّ أمثال عبد الفتاح السيسي، وهو الذي يستعدّ لبذل كلِّ ما لا يملك من مُقدّرات مصر، من أجل تثبيت حكمه المهتزّ، من أول يوم، أو كأنّ ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، الذي لا يقلّ تأزُّمًا عن سابقه، وهو الذي أصبح مطلوبًا لمحاكم الأميركية، في سَعَة، أن يكون له رأيٌ مغاير؟!
علمًا أن الموقف المُعلَن والرسمي لجامعة الدول العربية، وهو المفترَض أن يمثل الموقف العربي، في أعلى درجات "اعتداله" و"واقعيَّته" يرفض، أو يجب أن يرفض الفادحة الإماراتية؛ لكون التطبيع مع إسرائيل ممنوعا، حين يتجاوز الحقوق الفلسطينية والعربية التي باتت دولة الاحتلال أكثر إصرارا، بعد حُكْم اليمين على الاستخفاف بها. حتى وصل بنتنياهو وأنصاره إلى التبجّح بأن ما فعلته الإمارات، أخيرًا، خيرُ دليلٍ على صوابيّة نهجهم، وتصوُّراتهم عن سلامٍ عربيّ بلا أيِّ ثمن؛ من تنازلٍ عن الأراضي الفلسطينية، أو السماح بقيام دولة فلسطينية، أو غير ذلك من الحقوق المضيَّعة، كحقِّ العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والقدس، والموارد المنهوبة. فالرفض لهذا الاتفاق لا يأتي من رافضي السلام مع دولة الاحتلال، من حيث المبدأ، ولكنه يأتي أيضًا، ممن آمنوا بإمكانه، وربما لا يزالون، من السلطة الفلسطينية، وقبلها منظمة التحرير، على قاعدة أنّ السلام (هذا إن كان فعلا كذلك، بوصفه نقيضًا لحرب، غير قائمة) لا يجوز أن يكون هديّةً لدولة لا تقابله بأيّ استحقاقات، بل هي تمعن في محو شروطه، وفرْض أجندتها المنفردة، والإلغائيَّة.
تعيد هذه الفادحة مساءلة الإمارات عن هويّتها، الفعلية، وعن معاني الانتماء، المتحكِّمة فيها، وفي سياستها الراهنة، هل لا تزال منطلقاتُها عربية، فعلًا؟ هل هي تحتفي بالمعاني الإنسانية، أم أن هذه الإنسانية تتسع لكل شيء، إلا للعرب والفلسطينيين؟
يأتي هذا الاتفاق في وقت تمسّ فيه الحاجة إلى كلِّ الدعم العربي والإسلامي والعالمي في مواجهة حكومة إسرائيلية يمينية واستيطانية، توشك على ابتلاع ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، كما منطقة الأغوار البالغة الحيوية، وهي توشك أيضًا على تهويد المسجد الأقصى، وهي تتعمّد توالِي انتهاكه بجماعاتٍ دينيةٍ متطرّفة، لا تراه إلا الهيكل، ولا يهدأ لها بال، إلا حين تنجح في طمسه من الوجود. يأتي بعد أن رفضت إسرائيل كلَّ المبادرات الأُممية والعربية للحل، وليس آخرها المبادرة العربية للسلام التي طرحتها السعودية، ولم تجد لدى حكومات الاحتلال، إلا المطالبة بالمزيد.
هذا الاتفاق الذي أعلن البدء بإقامة علاقات كاملة بين الإمارات وإسرائيل، هو، في هذا التوقيت الحرِج والإستراتيجي الذي تمرّ به فلسطين، آليّة تخذيل للفلسطينيين، وهو سِنادة دعْمٍ لكلٍّ من نتنياهو الذي يواجه احتجاجات شعبية مستمرة، على خلفيَّة فشله في التعاطي مع وباء كورونا، والتراجُع الاقتصادي الذي يُنسَب إليه، وللرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي هو الآخر يواجه تراجُعًا في المؤيِّدين له، على أبواب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وهو إلى جانب ذلك وسيلة تملّق لسيّد البيت الأبيض وإدارته؛ لمنح الإمارات دورا إقليميًّا أوسع، وهو قبل ذلك علامة انسلاخ إماراتي عن الأمة وقضاياها، وإلقاء نفسها في حضن الجماعات المتطرّفة من الصهاينة، ولذلك أثمانٌ سابقة، ولاحقة، لا يدفعها الفلسطينيون، وحدهم، بل الإماراتيون أيضا، ومن يستعدّ ويتأهّب للحاق بهم، فمَن هم اليوم في مركز القرار ليسوا من براغماتية الإسرائيليين، أمثال شيمون بيريس، وإن كان لا يقلُّ عنهم مكرًا، وحرصًا على مصلحة كيانه، وإنما غُلاة المتطرِّفين بتأثيرهم الذي لا يقاومه نتنياهو، وبعنصريَّتهم التي تنظر إلى العرب، من دون استثناء نظرة احتقار، وفي أحسن الأحوال، نظرة استخدام.
15 اغسطس 2020