نبيل السهلي
25 فبراير 2020
تتسارع صور التطبيع العربية مع إسرائيل، والسودان محطتها الجديدة، بعد أن كان إلى عهد قريب من أشد القلاع العربية المعادية للمحتل الإسرائيلي. وتضغط إدارة ترامب نحو التطبيع بين دول خليجية وإسرائيل، وقد برز ذلك في غير مناسبة؛ من أبرزها عقد مؤتمر وارسو في يناير/ كانون الثاني 2019، وقد شاركت فيه دول خليجية مع إسرائيل، بزعم بحث التصدي لنفوذ إيران. كما تم ترويج السلام الاقتصادي الذي كان أحد بنود صفقة ترامب، تحت مسمّى السلام من أجل الازدهار، بهدف تشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصاديين في الأراضي الفلسطينية، وكانت البحرين حاضنة مؤتمر في يونيو/ حزيران الماضي، وشهد مشاركة إسرائيلية مقابل مقاطعة فلسطينية.
سبق ذلك كله تطبيع عربي رسمي مع إسرائيل، وتمثل بدايةً بعقد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في 1978، ودعمتها اقتصاديًا اتفاقيات وعقود مصرية إسرائيلية، وصولًا إلى اتفاقية استيراد مصر للغاز من حقلين إسرائيليين أخيرا، على الرغم من أن مصر بلد منتج للغاز. وكان من أخطر تداعيات توقيع اتفاقية إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (أوسلو) عام 1993 تسارع عجلة التطبيع مع إسرائيل من عدة دول عربية ودول عديدة كانت مناصرة حقوق الشعب الفلسطيني.
ويظهر المؤشر الأبرز والأحدث أخيراً رغبة بعض الدول العربية في التطبيع، من خلال قرارها الذي تفصح من خلاله أنظمتها عن حب فجائي لفلسطينيي الأراضي المحتلة في العام 1948، عبر فتح الباب أمامهم للعمل في أسواقها وحق الإقامة الدائمة والتملك فيها كجزء مما سميت خطة لفتح البلاد أمام المستثمرين الأجانب، وهي خطوة لاقت ترحيبا من الاحتلال، واعتبرها محللون إسرائيليون فاتحة التطبيع باستخدام ورقة فلسطينية ظلت بصمودها شوكةً في قلب مشروعه الاستيطاني التهويدي العنصري، وبما ينسجم بالضرورة مع أهداف تسارع الخطوات التطبيعية مع المحتل الإسرائيلي. ويتجرّع الفلسطينيون كل هذا الحب الفجائي الاقتصادي والسياسي من نظام عربي يخشى الإفصاح عن علاقاته السرية بمن يحب، ليجنوا نتائج أسوأ في حقيقتها من أن يكون الاحتلال وحده المتسبب بها، فقد اعتادوا أن الحب المفاجئ ما هو إلا كمين ينصب للشعوب العربية في محاولةٍ لسلب ما عجز المحتل عن سلبه منهم، بعد حروب وجرائم خلفت آلاف الشهداء والأسرى والجرحى والدمار منذ نحو 72 عامًا، وشهدت استماتتهم في المقاومة والكفاح دفاعًا عن وجودهم وأرضهم، والغرض في عمقه تصفيتهم وتحويلهم إلى حالةٍ تشبه حالة الشعوب المحلية في أميركا وكندا. ويحصل ذلك الحب المصلحي تجاه فلسطيني الداخل ليتم الإيقاع بهم، فيكونوا فوهة المدفع في أي مصيبة سيتجرّعون مرارةً نتائجها أكثر من أي أحد آخر، وهو ما جرت عليه عادة النظام العربي الرسمي لتعويم الفلسطينيين، قبل تعريضهم لنكبات جديدة.
وفي ذاك يلام النظام العربي الرسمي برمته وفئات محدودة من المثقفين العرب التي تسيء النظر لفلسطينيي الداخل، إذ غفل كثيرون عن عظيم نضالهم وأهمية تثبيت وجودهم وضرورة الانفتاح عليهم وتدويل معاناتهم، وكونهم الفئة التي إن فقدها الفلسطينيون فقدوا عمق قضيتهم المتمثل بالمهجّرين والأرض، وإن أصابتها أي هزة فلن تحمد عقباها على كل شعوب المنطقة، وهو ما تخطط دولة الاحتلال لتنفيذه بأيدي أنظمة عربية تطبّع معها في الخفاء، وتجاهد لتطبيع في العلن، حاولت "صفقة القرن" شرعنته، باعتبارها الحل النهائي من منظورهم.
واضحٌ بعد تسارع قطار التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل، والمشهد العام لأوضاع الفلسطينيين، أن الراغبين بالتطبيع ودعاة الممانعة في النظام العربي سيان في النتائج الكارثية على هذا الفلسطيني، فالحب المؤقت خاصتهم، وهو الحب ثلاثي الأبعاد في زمن لهاث التطبيع ومساعي التصفية ومزاعم الممانعة، يصير على غير حال في أية لحظة، وفقا للرغبة أو المصلحة أو أوامر المشغّل، بل يصير حبًا قاتلًا للفلسطيني لحظة أي تبدل غير متوقع في الأمزجة والمواقف، وعند أي خطوة تالية في تنفيذ الإملاءات، وعندها تضعف الرؤية، ويتشتت الفلسطيني في فرز الأصدقاء والأعداء، حين تصيبه السهام من كل الاتجاهات.
وعندها يأتي دور الأحرار وشعوب المنطقة، سيما العربية بمثقفيها ونشطائها وسياسييها وإعلامييها والقائمين بحراكاتها وثوراتها ومناهضي التطبيع فيها، للوقوف في وجه كل ذاك الاستخدام الذي يتعرّض له الفلسطينيون من الأنظمة، ومن يدعم بقاءها، باعتبار الشعوب هي الجهة الوحيدة القادرة على دعم الفلسطيني، فهي صاحبة الحب الذي لا مصلحة، ولا مراء فيه لفلسطين وشعبها.